السابق فيما نهى الله عنه قول خاطئ ، واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد ؛ لأنّ النهي فيها إنّما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ ، واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الاستقامة ، والجهة إلى الهوى ، والشهوة. أمّا التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة ، واتباع الهداية الراشدة ، فليس من هذا القبيل الذي حظره الله تعالى ، وحرمه. وكيف ينهانا عنه ، وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب ردّ المتشابهات إلى المحكمات ؛ إذ جعل هذه المحكمات هي أم الكتاب على ما سبق بيانه ، ثمّ كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرما ، وقد دعا به الرسول «صلىاللهعليهوآلهوسلم» ، فقال في الحديث المشهور : «اللهم فقهه في الدين ، وعلّمه التأويل».
وخلاصة هذا : أنّ الله أرشدنا في الآية إلى نوع من التأويل ، وهو ما يكون به ردّ المتشابهات إلى المحكمات ، ثمّ نهانا عن نوع آخر منه ، وهو ما كان ناشئا عن الهوى ، والشهوة لا على البرهان ، والحجة قصدا إلى الضلال والفتنة ، وهما لونان مختلفان ، وضربان بعيدان بينهما برزخ لا يبغيان.
إذن ، فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال ، فقد ضلّ كالظاهرية ، والمشبهة. ومن فسّر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة ، والبرهان قائما على الزيغ ، والبهتان ، فقد ضلّ أيضا : كالباطنية ، والإسماعيلية ، وكلّ هؤلاء يقال فيهم : إنّهم متبعون للمتشابه ، ابتغاء الفتنة. أمّا من يؤول المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ؛ ولكن منعا لها ، وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم وردّا لهم إلى محكمات الكتاب القائمة ، وأعلامه الواضحة ، فأولئك هم الهادون المهديّون حقا. وعلى ذلك درج سلف الأمة ، وخلفها ، وأئمتها ، وعلماؤها.
روى البخاري عن سعيد بن جبير أنّ رجلا قال لابن عباس : «إنني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ. قال : ما هو؟ قال : (فَلا أَنْسابَ