وأسباب التحدي قائمة وإلّا كان التحدي عبثا ، والإرادة الإلهية منزهة عن العبث ، سبحانك هذا بهتان عظيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وما يحير العقول أنّهم يقولون بالصّرفة ، وهم يعترفون بعجزهم عن معارضة القرآن. وهل يأتي العجز أو الاعتراف به قبل المحاولة؟! إلّا أن العجز جاء بعد أن حاولوا ، وجرّبوا ؛ فكان القرآن مثار إعجابهم ، وسرّ دهشتهم ، وشهادة اعترافهم ، وعلى ألسنتهم ، ولسان أحد صناديدهم الوليد بن المغيرة حيث يشهد ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ : ما هذا بقول بشر. ولكن ـ والكفر عناد ـ فبدلا من أن يحكّموا عقولهم ، ويؤمنوا ، قالوا : إن هذا إلّا سحر يؤثر إن هذا إلّا قول البشر. وعند ما حاولوا معارضته وفشلوا ـ وهم بشر ـ ناقضوا أنفسهم ، فقالوا : صرفنا الله عن ذلك ـ صرف الله قلوبهم ، وأخرس ألسنتهم. روى الحاكم ، والواحدي عن ابن عباس : «أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي «صلىاللهعليهوآلهوسلم» ، فقرأ عليه القرآن ـ وكأنّه رق له ـ فبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ؛ فإنّك أتيت محمدا تتعرض لما قاله. فقال : قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا. قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك منكر له وكاره. فقال : وما ذا أقول؟! فو الله ، ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزها ، وبقصيدتها مني ، والله ، ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا. والله ، إنّ لقوله الذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ؛ وإنّه لمثمر أعلاه ، معذق أسفله ؛ وإنّه ليعلو ، وما يعلى. قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال : فدعني حتى أفكر فيه ، فقال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) سورة المدّثر الآيات ١١ ـ ٢٥.
وهكذا حال صناديد قريش ، وهكذا حال فصحائهم ، وبلغائهم ، وخطبائهم ، وشعرائهم. وهكذا حال قس بن ساعدة ، وأميّة بن أبي الصلت ،