وغيرهم كثير خروا لبلاغة القرآن سجدا ، وركعوا لفصاحة القرآن ركعا. وهم أخطب النّاس ، وأشعرهم ، وأكثرهم فصاحة ، وبيانا ، أحسوا ببيان القرآن أكثر من غيرهم ، وأعجبوا ببلاغته أكثر من عوامهم ، وقد وجدوا فيه قوة بيانية لا تجابه ، وتيارا بلاغيا لا يقاوم ؛ فبسطوا ألسنتهم فأخرسها ، وفتحوا أفواههم ، فأغلقها ، وحاولوا معارضته فأفحمهم ، وأعجزهم. ولما لم يجدوا سبيلا آخر ، وسدت عليهم منافذ التحدي في المعارضة ، قالوا بالصّرفة ، قالوا : إنّ الله صرفهم عن المعارضة ، فأصبحوا غير قادرين ، ولو لا الصرفة لكانوا قادرين. ألا بئس الذّنب الكفر بعد الإيمان. ألا بئس الذنب الكفر بعد الإفحام. ألا بئس صارف صرفهم عن إيمانهم ، فعطل عقولهم ، وأعمى أبصارهم ، وضرب على آذانهم ، وطمس على قلوبهم.
الشبهة الثانية :
إنّ تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بمثله لا يدل على أنّه معجز ، أو أنّه كلام الله. ودليل ذلك : أنّ الصنعة البيانية ليست في النّاس بدرجة واحدة. وأنّ لكل قائل أو كاتب أو متأدب أسلوبا خاصا به يتبع استعداده الأدبيّ ، وما تهديه إليه فطرته الأدبية ، ومواهبه البيانية. وبذلك لا يستطيع أن يأتي اثنان بأسلوب واحد ، وبخصائص متشابهة ، وصفاته ، وشواهده ونكاته البلاغية واحدة. ولذلك فكل أسلوب يعتبر معجزا بالنسبة للآخر ، أو الأساليب الأخرى. ولذلك فالإعجاز الأسلوبي أمر مشاع في كلام البشر. وهو إعجاز نسبي ، وليس مطلقا ، وكذلك فإنّ هذا الإعجاز لم يضف على الأساليب البشرية شيئا من القدسية ، ولم يجعلها قرآنا. وما القرآن إلّا كلام عبر عنه أساليب بلاغية ، وبيانية بشرية. وما القرآن إلّا كلام بشر ، وهو محمد «صلىاللهعليهوآلهوسلم». ويتساءل أصحاب هذه الشبهة : إذا كان اختلاف الأساليب البشرية أمرا يعترف به الجميع ، وأنّه يستحيل أن يأتي أديب بأسلوب ، أو يكتب كاتب بمنهج يشبه تماما أساليب غيره ، فكيف يتحدى القرآن الناس أن يأتوا بمثله ، أو بمثل أسلوبه ؛ وصاحبه يعلم أن