لا عجب إذا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنّه شعر ؛ لأنّها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئا منها إلّا في الشعر. ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها ، فتقول : ما هو بشعر ؛ لأنّه ـ كما قال الوليد (١) ـ ليس على أعاريض الشعر في رجزه ، ولا في قصيده. ثمّ لا عجب أن تجعل مردّ هذه الحيرة أخيرا إلى أنّه ضرب من السّحر ؛ لأنّه جمع بين طرفي الإطلاق ، والتقييد في حدّ وسط : فكان له من النثر جلاله وروعته ، ومن الشعر جماله ، ومتعته.
٢ ـ فإذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا ، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة. فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ، ورصفها ، وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر وذاك يصفر ، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النّفس. وآخر يحتبس عنده النفس. وهلمّ جرّا. الجمال اللغوي مائلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة (٢) لا كركرة ، ولا ثرثرة ؛ ولا رخاوة ، ولا معاظلة. ولا تناكر ، ولا تنافر. وهكذا ترى كلاما ليس بالحضري الفاتر ، ولا بالبدويّ الخشن ، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية ، وفخامتها برقّة الحاضرة ، وسلاستها ، وقدر فيه الأمر أن تقديرا لا يبغي بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنّما هو عصارة اللغتين ، وسلالتهما ؛ أو كأنّما هو نقطة الاتصال بين القبائل ، عندها تلتقي أذواقهم ، وعليها تأتلف قلوبهم.
من هذه الخصوصية ، والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني. وليس الشأن في هذا الغلاف إلّا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ النفيسة ، فإنّه ـ جلّت قدرته ـ قد أجرى سنته في نظام هذا العالم
__________________
(١) تقدمت كلمة الوليد في ذلك.
(٢) من وقف على صفات الحروف ومخارجها ازداد بهذا المعنى علما. وإن شئت فارجع إلى ما كتبه الأديب الرافعي عن هذه الناحية في كتابه الموسوم (إعجاز القرآن) فقد أطال نفسه فيها ، وأجاد.