أن يغشّى جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة ، وجمال ؛ ليكون ذلك من عوامل حفظها ، وبقائها بتنافس المتنافسين فيها ، وحرصهم عليها. أنظر كيف جعل باعثة الغذاء ، ورابطة المحبة قواما لبقاء الإنسان فردا ، وجماعة. فكذلك لمّا سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم ، قضت حكمته أن يختار لها صوانا يحببها إلى النّاس بعذوبته ، ويغريهم عليها بطلاوته ، ويكون بمنزلة «الحداء» يستحث النفوس على السير إليها. ويهوّن عليها وعثاء السفر في طلب كمالها. لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل. ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدا في أفواه النّاس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق ، وحاسة تسمع ؛ وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سرّه ، وينفذون بها إلى بعيد غوره (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).
هل عرفت أن نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزّة ، وغرابة؟ وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع؟
فاعرف الآن أنّ هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة القرآن في التحدي ، والإعجاز ؛ واعتصم بها من أيدي المعارضين ، والمبدّلين ؛ وأن ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كفّ أيديهم عنه ؛ بل كان أجدر أن يغريهم به. ذلك أنّ النّاس ـ كما يقول الباقلاني (٢) : ـ إذا استحسنوا شيئا اتّبعوه ، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلّة. وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الأساليب ، وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه ، كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ ، وكما يصنع الكتاب ، والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. وما أساليب النّاس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلّا
__________________
(١) سورة الحجر» الآية ٩.
(٢) في كتابه «إعجاز القرآن».