وبذلك يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول أمر القبلة والقضايا الجدليّة الّتي أثارتها اليهود بالذات حول شكليّات الشعائر والعبادات وكثيرا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور.
نعم ، ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة ـ على الإطلاق ـ أن يولّي الناس وجوههم قبل المشرق أو المغرب ، نحو بيت المقدس أو المسجد الحرام ، وليست غاية البرّ ـ وهو الخير جملة ـ هي تلك الشعائر الظاهرة ـ إذا كانت مجرّدة عمّا يصاحبها في القلب من الشعور وفي العمل من السلوك ـ إنّما البرّ هو تصوّر وشعور وأعمال وسلوك. تصوّر ينشىء أثره في ضمير الفرد والجماعة ، وعمل ينشىء أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة مجرّد تولية الوجه قبل المشرق والمغرب ، سواء في التوجّه إلى القبلة هذه أم تلك ، أو التسليم من الصلاة يمينا وشمالا ، أو في سائر الحركات الظاهرة الّتي يزاولها الناس في الشعائر.
(وَلكِنَّ الْبِرَّ) الّذي هو جماع الخير كلّه (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) إخبار عن المصدر باسم الذات للمبالغة كعكسه في قوله : «فإنّما هي إقبال وإدبار» (١). والمقصود : أنّ من اجتمعت فيه هذه الصفات ، صار كأنّه متجسّد منها وقد تجسّدت في وجوده تلك النعوت والفضائل.
وبعد فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله؟ إنّ الإيمان بالله هو نقطة التحوّل في حياة البشريّة من العبوديّة لشتّى القوى وشتّى الأشياء وشتّى الاعتبارات ، إلى عبوديّة خالصة لله تحرّر بها النفس من كلّ علائقها المثبّطة لها عن الحركة نحو الكمال ، كما هي نقطة التحوّل كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكّك إلى وحدة الاتّجاه.
فهذه البشريّة ، دون الإيمان بالله وحده لا شريك له ، لا تعرف لها قصدا مستقيما في الحياة ولا غاية مطّردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمّع حولها في جدّ وفي مساواة وفي طمأنينة وسلام.
__________________
(١) من قصيدة قالها الخنساء في رثاء أخيها صخر :
فما عجول على بوّ تطيف به |
|
لها حنينان إصغار وإكبار |
لا تسأم الدهر منه كلّما ذكرت |
|
فإنّما هي إقبال وإدبار |
يوما بأوجد منّي حين فارقني |
|
صخر وللدهر إحلاء وإمرار |
(الكشّاف ١ : ٢١٨).