فجعل الإبريسم (١) فى الدود وهو أضعف الحيوانات ، وجعل العسل فى النحل وهو أضعف الطيور ، وجعل الدّرّ فى الصدف وهو أوحش (٢) حيوان من حيوانات البحر ، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج فى الحجر ... كذلك أودع المعرفة به والمحبة له فى قلوب المؤمنين وفيهم من يعصى وفيهم من يخطىء (٣).
قوله جل ذكره : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))
خلق الإنسان فى أحسن تركيب ، وأملح ترتيب ، فى الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة ، والنور والضياء ، والفهم والذكاء. ورزقه من العقل والتفكر ، والعلم والتبصر ، وفنون المناقب التي خصّ بها من الرأى والتدبير ، ثم فى آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودا ، ويرى فى كل يوم ألما جديدا.
ويقال (مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) : وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق ؛ فهو يكون فى أول أحوال عمره مطيعا ثم يصير فى آخر عمره عاصيا.
ويقال أرذل العمر أن يرغب فى عنفوان شبابه فى الإرادة ، ويسلك طريق الله مدّة ، ثم تقع له فترة ، فيفسخ عقد إرادته ، ويرجع إلى طلب الدنيا. وعند القوم هذه ردّة فى هذا الطريق.
ويقال أرذل العمر رغبة الشيخ فى طلب.
ويقال أرذل العمر حبّ المرء للرياسة.
__________________
(١) الإبريسم ـ أحسن الحرير (معرب) (الوسيط ح ١ ص ٢).
(٢) هنا معناها أجوع الحيوان ، من قولهم بات وحشا أي جائعا لم يأكل شيئا فحلا جوفه (الوسيط ج ٢ ص ٦ ، ١٠).
(٣) ينسجم اتجاه القشيري فى هذه الإشارة مع السياق القرآنى .. إذ يأتى بعد قليل : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) .. وفضل الله بلا علة.