وبعد هذا الموافقة ؛ وهى ألا يجد الراحة فى المنع ، بل يجد بدل هذا عند نسيم القرب زوائد الأنس بنسيان كلّ أرب ، ونسيان وجود سبب أو عدم وجود سبب ؛ فكما أن حلاوة الطاعة تتصاغر عند برد الرضا ـ وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجابا ـ فكذلك أهل الأنس بالله .. بنسيان كلّ فقد ووجد ، وبالتغافل عن أحوالهم فى الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع ، والاستقلال بلطائف الرضا نقصانا فى الحال.
ثم بعد هذا استيلاء سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية ، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء .. وأمثال هذا ، وذلك هو عين التوحيد ، فعند ذلك لا أنس ولا هيبة ، ولا لذة ولا راحة ، ولا وحشة ولا آفة.
هذا بيان ترتيبهم (١). فأمّا ما دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين ـ على تباين شربهم ـ يختلف على حسب اختلاف محالّهم.
فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل فى المهد ؛ لا شىء من قبله إلا أن يرضعه من هو فى حضانته (٢).
ويقال التوكل زوال الاستشراف ، وسقوط الطمع ، وفراغ القلب من تعب الانتظار.
ويقال التوكل السكون عند مجارى الأقدار على اختلافها.
ويقال إذا وثق القلب يجريان القسمة لا يضره الكسب ، ولا يقدح فى توكله (٣).
ويقال عوام المتوكلين إذا أعطوا شكروا ، وإذا منعوا صبروا. وخواصّهم إذا أعطوا آثروا ، وإذا منعوا شكروا.
__________________
(١) هذا الترتيب الذي ذكره القشيري على جانب كبير من الأهمية لأنه أولا يكشف عن التدرج في مراتب التوكل واحدة بعد الأخرى ، والدقائق النفسية المرتبطة بكل منها ، كما أنه يكشف عن مرحلة الانتقال من المقامات ـ التي هى جهود ـ إلى الأحوال التي هى من عين الجود. وواضح أن (الرضا) يحمل فى طياته طبيعة هذه المرحلة الانتقالية ، وقد عالج القشيري هذه الظاهرة فى رسالته ص ٩٧.
(٢) القشيري متأثر بأقوال الشيوخ فى ذلك : نحو (المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوى إليه إلا ثدى أمه (الرسالة ص ٨٥ وقولهم) (الصوفية أطفال فى حجر الحق) الرسالة ص ١٣٩.
(٣) هذه نقطة هامة جدا توضح أن التوكل الصوفي الحق لا يتعارض مع الكسب ، ولا يتعارض معه الكسب .. وقد كذب من ادعى التواكل وكذب من انهم الصوفية بالتكاسل.