المستشرق هنا يخلط خلطا مفضوحا بين الوحى وحديث النفس ولا أظنه غير فاهم ، ولكنه يتعمد ، فقد أثبتنا ـ فيما مر ـ أن دلالات النبوة واحدة. وقد انطبقت على محمد صلىاللهعليهوسلم قدر انطباقها على موسى وعيسى عليهماالسلام ـ بل أزيد ـ فما الذى يجعل مثل هذا المستشرق يقف ليصف لنا شاعرا أو فنانا عبقريا والنبوة ليست من هذا القبيل؟
يستطرد درمنغام قائلا : «... وهناك ـ فى غار حراء ـ كان يقلب في صحف ذهنه كل ما وعى (!) ... وهو لم يكن يطمع في أن يجد في قصص الأحبار وفى كتب الرهبان الحق الذى ينشده ، بل في هذا الكون المحيط ... فلما كانت سنة ٦١٠ م كانت الحالة النفسية التى يعانيها محمد «صلىاللهعليهوسلم» على أشدها ... ووجد في غار حراء مسرة تزاد كل يوم عمقا ... وروحه تزداد بالصوم والسهر والإدمان على تقليب فكرته صفاء وحدة. ونسى الليل والنهار ، والحلم واليقظة ... وكأنه يسمع الأصوات تخرج من خلال أحجار الصحراء تناديه مؤمنة برسالته ... وفيما هو يوما نائم ـ «لاحظ» ـ بالغار جاءه ملك فقال له : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، وكان هذا أول الوحى وأول النبوة» (١) بعض المستشرقين يقول بأن محمدا تأثر بالعناصر الأجنبية التى كانت سائدة فى مكة وما حولها ـ وسوف نفند هذا الزعم بعد ـ ودرمنغام ـ هنا ـ أيد هذا الزعم إلا أنه أضاف : أن محمدا لم يجد في هذه الكتب ـ التى كانت متداولة بين مدارس وجامعات مكة ـ ما ترنو إليه نفسه وترومه ، فعكف على التأمل ، والتأمل العميق فيما حوله ، حتى نسى كل شىء ، لم يفرق بين ليل ونهار ولا سماء ولا أرض (!) حتى خيل إليه أنه يسمع أصواتا وليس هناك أصوات ، ويرى أشباحا ـ وليس هناك أشباح ، فنام ، فجاءه جبريل وقال له اقرأ ... وهذا أول الوحى وأول النبوة.
ما ذا يريد المسلمون أكثر من هذا المستشرق يعترف بأن النبى جاءه جبريل وقال له : اقرأ. كما جاء في مصادرنا المعتبرة ، ولكن هذا كله حدث والنبى «صلىاللهعليهوسلم» شارد أو مغيب عن الوعى أو نائم.
يريد درمنغام أن يقول : القرآن فيض وجدان محمد «صلىاللهعليهوسلم» وصورة من انطباع نفسه بما كان يدور حوله وأمام عينيه ، والوحى في رأى هذا المستشرق ليس إلا وحيا من داخل نفس الرسول لا من مصدر خارجى ، أى من العقل الباطن لا من رب العالمين.
«درمنغام» يردد كلاما جاء على لسان فيلسوف لا يؤمن بإله ولا ينبوه ، فأنزل
__________________
١ ـ المصدر السابق.