النبوة منزلة الهلوسة وحديث النفس ، ذلك هو «أرسطو» الذى ذهب إلى أن الجسد سجن النفس ، وأن الإنسان أى إنسان ، إذا أجاع الجسد وأمرضه ، انطلقت نفسه وعندها تتصل بالعالم العلوى فتسمع أصواتا وترى أشباحا ... هذه نظرية النبوة عند الإغريق. والمستشرق ، تبنى هذه الأفكار وأسقطها على محمد «صلىاللهعليهوسلم» ومع هذا كله ، ـ والكفيل بإسقاط هذا الكلام ـ نسأل من أين أتى درمنغام بهذه السيرة المدعاة لنبينا؟ هل بين يديه مصادر غير التى بين أيدينا؟
حديث بدء الوحى عرضنا له في الصفات السابقة ليس فيه شىء من هذا التجنى المفضوح ، أما ردنا على درمنغام فيتلخص في الآتى :
١ ـ النبوة اصطفاء ، واجتباء ، ليست عملا كسبيا (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج : ٧٥].
٢ ـ لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه وكان قد تم استعداده بالاختلاء والتعبد في الغار وكان فكره مضطربا وقلبه ملتهبا ... ثم تم له رجاؤه ومبتغاه ، لو كان الأمر كذلك لظهر عقب ذلك ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثابة وفكرته الوقادة (١).
ولو كان اختلاؤه وتحنثه استعدادا للنبوة لاعتقد حين رأى جبريل حصول مأمولة وتحقق رجائه ، ولم يخف منه على نفسه.
يقول الشيخ محمد عبده : «من السنن المعروفة أن يتيما فقيرا أميا مثله ـ أى مثل محمد ـ تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه ، لا سيما إذا كان من ذوى قرابته ، وأهل عصبته ، ولا كتاب يرشده ، ولا أستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، لو جرى الأمر فيه على جارى السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم إلى أن بلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممن كانوا على عهده (٢).
ولكن الأمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ـ ليصنعه الله تعالى على عينه ٣ ـ فعاجلته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة» (٤) ،
__________________
١ ـ الوحى المحمدى ص ٩٤.
٢ ـ كعمرو بن نفيل وورقة وقد أشرنا إليهما من قبل وأمية ابن أبى الصلت.
٣ ـ أنظر : عصمة الأنبياء بين اليهودية والمسيحية والإسلام. للمؤلف.
٤ ـ رسالة التوحيد : ص ١١٩ ، ١٢٠ دار إحياء العلوم بيروت ١٣٩٩ ه ـ ١٩٧٩ م.