يقول الشيخ محمد عبده عند (آية ٢٣ : البقرة) : (فهذا القضاء الحاكم منه بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بشيء من مثل ما تحداهم به ليس قضاء بشريا ، ومن الصعب بل من المتعذر أن يصدر عن عاقل التزم كالذى التزمه وشرط كالذى شرطه على نفسه ، لغلبة الظن عند من له شىء من العقل أن الأرض لا تخلو من صاحب قوة مثل قوته وإنما ذلك هو الله المتكلم ، والعليم الخبير ، هو الناطق على لسانه ـ أى محمد ـ وقد أحاط علمه بقصور جميع القوى من تناول ما استنهضهم له وبلوغ ما حثهم عليه» (١).
نخلص من ذلك إلى أنهم حاولوا فعجزوا «وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله أنفة وأفرط حمية وأطلبه بطائله وقد سمعوه في كل منهل» (٢).
فمع أن الكلام كان سيد عملهم فقد عجزوا عن المعارضة مع بذلهم المحاولة تلو الأخرى. وهو كذلك معجز أى لتركهم المعارضة مع التحدى.
ننتهى مما سبق إلى أن القرآن الكريم لم يلتزم شيئا مما كانوا يلتزمون بسجعهم وإرسالهم ورجزهم وإشعارهم بل جاء على النمط الفطرى والأسلوب العادى الذى يتسنى لكل إنسان أن يحذو مثاله ولكنهم عجزوا فلم يأتوا ولن يأتى غيرهم بسورة من مثله فثبت أنه معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه ، الذى هو أم إعجازه والقانون الذى وقع عليه التحدى. فالرسول «صلىاللهعليهوسلم» تحداهم الإتيان بمثله. وكيف يتصور أن يكون الفصحاء والبلغاء من العرب كثيرين مشهورين بالعصبية والحمية فيتركون الأمر الأسهل الذى هو الإتيان بقدر أقصر سورة ويختارون الأصعب مثل الحرب وسفك الدماء والسبى.
الجانب الثانى : الإخبار عن الغيوب.
رأينا أن الإعجاز القرآنى لا يرد إلى بلاغته فقط بل أن هناك وجوها أخرى منها : ما تضمنه من الأخبار عما سيكون في مستقبل الزمان ، وأخبار الأمم السابقة ، وكل ما بعد عن إدراك الإنسان فهو غيب ، حتى النفس : خلجاتها ونزعاتها فهى غيب أيضا.
فالدليل على كون القرآن معجز إنما هو كما يقول الإمام ابن تيمية : ليس من جهة فصاحته وبلاغته فقط ، أو نظمه وأسلوبه فقط ، ولا من جهة اخباره بالغيب
__________________
١ ـ محمد عبده : «رسالة التوحيد ص ١٧٠ ج ١ المنار بمصر.
٢ ـ الجاحظ : حجج النبوة بهامش الكامل للمبرد ج ٢ ص ١٣٠.