فقط ولا من جهة صرف الدواعى عن معارضته فقط ، ولا من جهة سلب قدرتهم عن معارضته فقط.
بل هو آية بينة معجزة من هذه الوجوه جميعا. من جهة معانيه التى أخبر بها عن الغيب الماضى وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التى هى الأمثال المضروبة. كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)) [الكهف : ٥٤].
وقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الاسراء : (٨٩)](١). يقول الزمخشرى عند قول الله تعالى : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)) [هود : ١٤]. أى أنزل متلبسا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز وأخبار لغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا الله» (٢). وهذا التحدى كان بمكة ، فهود مكية ، ثم أعاد التحدى في المدينة ، فقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤].
يقول الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح : الله تعالى ذكر هنا أمرين :
أحدهما : قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) أى إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق ، فخافوا الله أن تكذبوه فيحيق بكم العذاب الذى وعد به المكذبين ..
والثانى : قوله (وَلَنْ تَفْعَلُوا) و (لن) لنفى المستقبل فثبت للخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان لا يأتون بسورة من مثله (٣).
وإذا قيل : من أين لكم أنه إخبار بالغيب على ما هو به حتى يكون معجزة؟ أجاب صاحب الكشاف : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواضعه الناس ويتناقلوه إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال لا سيما والطاعنون فيه أكثف عددا من الذابين عنه فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيوب على ما هو به فكان معجزة (٤).
أما الإنباء بالمستقبل القريب أو البعيد ، فقد حفل القرآن الكريم بالكثير منها وتم
__________________
١ ـ الجواب الصحيح .. ج ٤ ص ٧٤.
٢ ـ الكشاف ج ٢ ص ٤٣٧.
٣ ـ الزمخشرى : السابق ج ١ ص ٤٢.
٤ ـ ابن تيمية : الجواب الصحيح ج ٤ ص ٧٣.