غص ريقه فمات مكانه وفي ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا محمد وصحة نبوته لأنه أخبر بالشىء قبل كونه فكان كما أخبر ولو لم يكن هذا الإخبار من الله تعالى لما جاز للنبى «صلىاللهعليهوسلم» أن يخبر به خشية أن يظهر منهم ما يوجب تكذيبه إن هذه الأخبار الصادقة عن المستقبل دليل على ربانية القرآن الكريم وأنه كلام الله إلى خلقه.
أما ما ورد من غيب مضى ، أى أخبار الأنبياء السابقين وما كان من أممهم معهم وما نزل بالذين كفروا وكذبوا وذكر ما شجر بينهم وكان في أعصارهم ما لا يجوز حصول علمه إلا لمن كثر لقاؤه لأهل السير ودرسه لها وعنايته بها ومجالسته لأهلها وكان مما يتلو الكتب ويستخرجها ، مع العلم بأن النبى «صلىاللهعليهوسلم» لم يكن يتلو كتابا ولا يخطه بيمينه.
وكثيرا ما كان أهل الكتاب يتعمدون إحراجه ويسألونه عن هذه الأمور «فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرا كخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذى القرنين ولقمان وابنه وبدء الخلق» (١).
ومن أخبار القرآن عن الغيوب السالفة وعجب ذلك إذ ورد ممن لا يعرف كتابة ولا قراءة ولم يجالس أصحاب التواريخ.
من ذلك ما قاله تعالى على أهل السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وأوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] تناول القرآن صفحات من تواريخ الأمم السابقة للإسلام لم تكن معروفة لأنها موغلة في القدم ، ولم يكن النبى «صلىاللهعليهوسلم» مؤرخا ولا ملما بدراسة اللغات القديمة ولا كان أحد من العرب يعرف هذه الأحداث التاريخية. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩].
وصف القرآن ملكة سبأ بأنها (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣]. وقد أثبتت الدراسات التاريخية ازدهار هذه المملكة وأن حضارتها كانت تضارع حضارة قدماء المصريين وأن أهلها برعوا في إقامة السدود المائية العظيمة والقنوات العديدة .. فكانت الحدائق الغناء عن يمين وشمال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)) [سبأ : ١٥].
__________________
١ ـ القاضى عياض : الشفا ج ١ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.