والبلاغة متحديا أن يأتوا بسورة من مثله وظهر عجزهم مع التقريع صباح مساء دل ذلك على أن الله تعالى خصه به ليدل به على نبوته كما دل على نبوة موسى لما تحدى به السحرة وعجزوا عن مثله وكما دلّ إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على نبوة عيسى لما تحدى به الأطباء وجعل الله المعجزات لمحمد «صلىاللهعليهوسلم» ما يجانس الفصاحة التى هى من طبائعهم وطريقتهم لئلا يلتبس الحال فيه كما أجرى الأمر فى معجزة موسى وعيسى ـ عليهماالسلام ـ على هذه الطريقة.
ولما لم يأت العرب بمثل القرآن علمنا أنهم إنما أعرضوا عن الإتيان به للعجز عنه كما أن سحرة فرعون في زمان موسى عجزوا عن معارضته فبان به كونه محقا فى دعواه ، وكما أن عيسى في أيامه أعجز الأطباء عن مثل ما أتى به» (١). يقاس على ذلك ما كان في عهد رسول الله «صلىاللهعليهوسلم» فقد بلغت البلاغة إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها كما تشهد به كتب السيرة فلما أتى النبى «صلىاللهعليهوسلم» بما عجز عن مثله جميع البلغاء علم أن ذلك من عند الله قطعا» (٢).
وقد قيل : إن الذى أورده محمد «صلىاللهعليهوسلم» على العرب من الكلام الذى أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من أحياء الموتى وإبراء الأكمه لأنه أتى أرباب أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ... بكلام مفهوم المعنى عندهم وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح ـ عليهالسلام ـ عند إحياء الموتى ، لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه ولا في إبراء الأكمه والأبرص وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة فدل ذلك على أن العجز عنه إنما كان ليصير علما على رسالته وصحة نبوته وهذه حجة قاطعة.
ولما ثبت أن «الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز عليهم ولما ظهر المعجز على يد محمد «صلىاللهعليهوسلم» وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلا». (٣)
وفي هذا رد برهانى على اليهود : لأنه إذا كان الدليل الذى يدل على نبوة الأنبياء هو المعجزة لزم الجزم بأنه حيث حصل المعجزة حصلت النبوة ، فإذا جوزنا في بعض الحالات حصول المعجزة بدون الصدق فإنه يتعذر الاستدلال به على الصدق وحينئذ
__________________
١ ـ الإسفرايينى : التبصير في الدين ص ١٠٦
٢ ـ رحمة الله الهندى : إظهار الحق ج ٢ ص ٣٣
٣ ـ الرازى التفسير الكبير ج ٤ ص ٨٢.