سمّيناه لطيفاً للخلق اللّطيف ، ولعلمه بالشيء اللّطيف ممّا خلق من البعوض والذرّة ، (١) وممّا هو أصغر منهما لا يكاد تدركه الأبصار والعقول ، لصغر خلقه من عينه وسمعه و صورته ، لا يعرف من ذلك لصغره الذكر من الاُنثى ، ولا الحديث المولود من القديم الوالد ، (٢) فلمّا رأينا لطف ذلك في صغره وموضع العقل فيه والشهوة للسفاد (٣) والهرب من الموت ، والحدب على نسله من ولده ، ومعرفة بعضها بعضاً ، وما كان منها في لجج البحار ، وأعنان السماء ، والمفاوز والقفار ، وما هو معنا في منزلنا ، ويفهم بعضهم بعضاً من منطقهم ، وما يفهم من أولادها ، ونقلها الطعام إليها والماء ، علمنا أنَّ خالقها لطيف وأنّه لطيف بخلق اللّطيف ، (٤) كما سمّيناه قويّاً بخلق القويّ .
قال : إنَّ الّذي جئت به لواضح ، فكيف جاز للخلق أن يتسمّوا بأسماء الله تعالى ؟ قلت : إنَّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أباح للناس الأسماء ووهبها لهم ، وقد قال القائل من الناس للواحد : واحد ، ويقول لله : واحد ويقول قويّ والله تعالى قويّ ، ويقول : صانع والله صانع ، ويقول : رازق والله رازق ، ويقول : سميع بصير والله سميع بصير ، وما أشبه ذلك ، فمن قال للإنسان : واحد فهذا له اسم وله شبيه ، والله واحد وهو له اسم ولا شيء له شبيه وليس المعنى واحداً ؛ وأمّا الأسماء فهي دلالتنا على المسمّى لأنّا قد نرى الإنسان واحداً وإنّما نخبر واحداً إذا كان مفرداً فعلم أنَّ الإنسان في نفسه ليس بواحد في المعنى لأنَّ أعضاءه مختلفة وأجزاءه سواءاً ، ولحمه غير دمه ، وعظمه غير عصبه ، وشعره غير ظفره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر الخلق والإنسان واحد في
________________________
(١) الذر : صغار النمل .
(٢) هذا تنبيه منه عليه السلام على وجود الحيوانات الحية والميكروبات المخفية عن الانظار و العقول ، قبل وجود المكبّرات واختراع الميكروسكوب والمنظار بقرون ، وغير خفى أن العلم بذلك في أحد عشر قرنا قبل زماننا لم يك يحصل إلا لذوي النفوس الكاملة والانظار الثاقبة ، الذين خصهم الله من بريته بفضله ، وأيدهم بحكمته ، وانتجبهم لولايته من بين خلقه ، وعلّمهم ما لا يعلّم غيرهم من عبيده .
(٣) وفي نسخة : والشهوة للبقاء .
(٤) وفي نسخة : لطيف يخلق اللطيف .