أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي تجب رعايتها في هذا السفر ، ثم يرتحل منه متوجها إلى عالم الآخرة ، فكل ما دعاه من الدنيا إلى عالم الآخرة ، ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق فهو السير المستقيم ، وكل ما دعاه من عالم الآخرة إلى الدنيا فهو السير المعوج ، والقرآن مملو من الدعوة من الخلق إلى الحق ، ومن الدنيا إلى الآخرة ، ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالانوار الصمدية (١) ، فثبت أنه مبرأ من العوج والانحراف والباطل (٢).
قوله تعالى : « وأسروا النجوى » قال البيضاوي : أي بالغوا في إخفائها « هل هذا إلا بشر مثلكم » كأنهم استدلوا بكونه بشرا على كذبه في ادعاء الرسالة لادعائهم (٣) أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر « بل قالوا أضغاث أحلام » إضراب لهم عن قولهم : هو سحر إلى أنه تخاليط الاحلام ، ثم إلى أنه كلام افتراه ، ثم إلى أنه قول شاعر ، والظاهر أن (بل) الاولى لتمام حكاية (٤) والابتداء باخرى ، أو للاضراب عن تحاورهم في شأن الرسول ، وما ظهر عليه من الآيات إلى تقاولهم في أمر القرآن ، والثانية والثالثة لاضرابهم عن كونه أباطيل خيلت إليه و خلطت عليه ، إلى كونه مفتريات اختلقها من تلقاء نفسه ، ثم إلى أنه كلام شعري يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ، ويرغبه فيها ، ويجوز أن يكون الكل من الله تعالى تنزيلا لاقوالهم في درج الفساد ، لان كونه شعرا أبعد من كونه مفترى ، لانه مشحون بالحقائق والحكم ، وليس فيه ما يناسب قول الشعراء ، وهو من كونه أحلاما ، لانه مشتمل على مغيبات كثيرة طابقت الواقع ، والمفترى لا يكون كذلك ، بخلاف الاحلام ، و لانهم جربوا رسول الله (ص) نيفا (٥) وأربعين سنة ما سمعوا منه كذبا قط ، وهو من كونه سحرا ، لانه مجانسه من حيث أنهما من الخوارق « فليأتنا بآية كما ارسل الاولون »
___________________
(١) في المصدر : وفى غير نسخة المصنف من النسخ : الصمدانية.
(٢) مفاتيح الغيب ٥ : ٤٥٢.
(٣) في المصدر : لاعتقادهم.
(٤) في المصدر : لتمام الحكاية.
(٥) النيف : الزيادة ، وكل ما زاد على العقد فنيف إلى أن يبلغ العقد الثانى.