أحاديثها وعينه من أعاجيبها ، ويده مملؤة من جمعها ، ثم تصبح الكف صفرا ، والعين هامدة ، ذهب ما ذهب ، وهوى ما هوى ، وبادماباد ، وهلك ما هلك ، تجد في كل من كل خلفا ، وترضى بكل من كل بدلا ، تسكن دار كل قرن قرنا ، وتطعم سؤر كل قوم قوما ، تقعد الاراذل مكان الافاضل ، والعجزة مكان الحزمة (١) تنقل أقواما من الجدب إلى الخصب (٢) ، ومن الرجلة إلى المركب ومن البؤس إلى النعمة ، ومن الشدة إلى الرخاء ، ومن الشقاء إلى الخفض والدعة ، حتى إذا غمستهم في ذلك انقلبت بهم فسلبتهم الخصب ، ونزعت منهم القوة ، فعادوا إلى أبأس البؤس ، وأفقر الفقر ، وأجدب الجدب.
فأما قولك أيها الملك في إضاعة الاهل وتركهم فإني لم أضيعهم ، ولم أتركهم ، بل وصلتهم وانقطعت إليهم ، ولكني كنت وأنا أنظر بعين مسحورة لا أعرف بها الاهل من الغرباء ، ولا الاعداء من الاولياء ، فلما انجلى عني السحر استبدلت بالعين المسحورة عينا صحيحة ، واستنبت الاعداء من الاولياء ، والاقرباء من الغرباء ، فإذا الذين كنت أعدهم أهلين وأصدقاء وإخوانا وخلطاء إنماهم سباع ضارية (٣) لا همة لهم إلا أن تأكلني وتأكل بي ، غير أن اختلاف منازلهم في ذلك على قدر القوة ، فمنهم كالاسد في شدة السورة (٤) ومنهم كالذئب في الغارة والنهبة ، ومنهم كالكلب في الهرير والبصبصة ، ومنهم كالثعلب في الحيلة والسرقة ، فالطرق واحدة والقلوب مختلفة.
فلو أنك أيها الملك في عظيم ما أنت فيه من ملكك ، وكثرة من تبعك من أهلك وجنودك وحاشيتك وأهل طاعتك ، نظرت في أمرك عرفت أنك وحيد فريد ، ليس معك أحد من جميع أهل الارض ، وذلك أنك قد عرفت أن عامة الامم
____________________
(١) في بعض النسخ «الفجرة مكان البررة».
(٢) الجدب : القحط ، مقابل الخصب.
(٣) الضارى من الكلاب ما لهج بالصيد وتعود أكله.
(٤) السورة : الحدة.