وأنت طلبتي التي كنت طلبتها فصف لي أمر الاخرة تاما ، فأما الدنيا فلعمري لقد صدقت ولقد رأيت منها ما يدلني على فنائها ويزهدني فيها ، ولم يزل أمرها حقيرا عندي.
قال بلوهر : إن الزهادة في الدنيا يا ابن الملك مفتاح الرغبة إلى الاخرة ، ومن طلب الاخرة فأصاب بابها دخل ملكوتها وكيف لا تزهد في الدنيا وقد آتاك الله من العقل ما آتاك ، وقد ترى أن الدنيا كلها وإن كثرت إنما يجمعها أهلها لهذه الاجساد الفانية ، والجسد لاقوام له ، ولا امتناع به ، فالحر يذيبه ، والبرد يجمده ، والسموم يتخلله ، والماء يغرقه ، والشمس تحرقه ، والهواء يسقمه ، والسباع يفترسه ، والطير تنقره ، والحديد يقطعه ، والصدم يحطمه ، ثم هو معجون بطينة من ألوان الاسقام والاوجاع والامراض ، فهو مرتهن بها ، مترقب لها ، وجل منها ، غير طامع في السلامة منها ، ثم هو مقارن الافات السبع التي لا يتخلص منها ذوجسد وهي الجوع والظمأ والحر والبرد والوجع والخوف والموت.
فأما ما سألت منه من الامر الاخرة ، فإني أرجو أن تجد ما تحسبه بعيدا قريبا ، وما كنت تحسبه عسيرا يسيرا ، وما كنت تحسبه قليلا كثيرا.
قال ابن الملك : أيها الحكيم أرأيت القوم الذين كان والدي حرقهم بالنار ونفاهم أهم أصحابك؟ فقال : نعم ، قال : فإنه بلغني أن الناس اجتمعوا على عداوتهم وسوء الثناء عليهم ، قال بلوهر : نعم قد كان ذلك ، قال : فما سبب ذلك أيها الحكيم؟ قال بلوهر : أما قولك يا ابن الملك في سوء الثناء عليهم فما عسى أن يقولون فيمن يصدق ولا يكذب ، ويعلم ولا يجهل ، ويكف ولا يؤذي ، ويصلي ولا ينام ، ويصوم ولا يفطر ، ويبتلى فيصبر ، ويتفكر فيعتبر ، ويطيب نفسه عن الاموال والاهلين ، ولا يخافهم الناس على أموالهم وأهليهم.
قال ابن الملك : فكيف اتفق الناس على عداوتهم وهم فيما بينهم مختلفون؟ قال بلوهر : مثلهم في ذلك مثل كلاب اجتمعوا على جيفة تنهشها ويهار بعضها بعضا ، مختلفة الالوان والاجناس فبينا هي تقبل على الجيفة ازدنى رجل منهم فترك بعضهن بعضا وأقبلن على الرجل فيهرن عليه جميعا معاويات عليه وليس للرجل في جيفتهن حاجة