بالنزول عن سرير ملكي ، ثم قال : هذه مقدمة الموت ورسول البلاء (١) لم يحجبه عني حاجب ، ولم يمنعه عني حارس ، فنعى إلى نفسي وأذن لي بزوال ملكي فما أسرع هذا في تبديل بهجتي وذهاب سروري ، وهدم قوتي ، لم يمنعه مني الحصون ولم تدفعه عني الجنود ، هذا سالب الشباب والقوة ، وما حق العز والثروة ، ومفرق الشمل وقاسم التراث بين الاولياء والاعداء ، مفسد المعاش ، ومنغص اللذات ومخرب العمارات ومشتت الجمع ، وواضع الرفيع ، ومذل المنيع ، قد أناخت بي أثقاله (٢) ونصب لي حباله.
ثم نزل عن مجلسه حافيا ماشيا ، وقد صعد إليه محمولا ، ثم جمع إليه جنوده ودعا إليه ثقاته فقال : أيها الملا ماذا صنعت فيكم وما أتيت إليكم منذ ملكتكم ووليت اموركم؟ قالوا له : أيها الملك المحمود عظم بلاؤك عندنا وهذه أنفسنا مبذولة في طاعتك ، فمرنا بأمرك ، قال : طرقني عدو نحيف (٣) لم تمنعوني منه حتى نزل بي وكنتم عدتي وثقاتي ، قالوا : أيها الملك أين هذا العدو؟ أيرى أم لا يرى؟ قال : يرى بأثر ولا يرى عينه ، قالوا : أيها الملك هذه عدتنا كما ترى وعندنا سكن وفينا ذووا الحجى والنهى ، فأرناه نكفك ما مثله يكفى ، قال : قد عظم الاغترار مني بكم ووضعت الثقة في غير موضعها حين اتخذتكم وجعلتكم لنفسي جنة ، وإنما بذلت لكم الاموال ورفعت شرفكم وجعلتكم البطانة دون غيركم لتحفظوني من الاعداء وتحرسوني منهم ، ثم أيدتكم على ذلك بتشييد البلدان وتحصين المدائن والثقة من الصلاح ونحين عنكم الهموم (٤) وفرغتكم للنجدة
____________________
(١) في بعض النسخ «رسول البلى».
(٢) أناخ البلاء على فلان : أقام عليه ، وأناخ به الحاجة : أنزلها به. أناخ الجمل : أبركه.
(٣) طرق القوم : أتاهم ليلا.
(٤) نحاه عنه أى أبعده عنه وأزاله ـ والنجدة : الشجاعة والشدة والبأس.