ولمّا كنتُ قد أخذتُ على نفسي أن لا تنساب مع المغالين المتساهلين فتذوب في التضخيم والتفخيم ، ولا تجمد عند موقف المقصرّين المتشدّدين ، فتجرّد ذلك الكمّ الهائل من هالته ، فتذروه هشيماً ، رأيت من واجبي أن أزيل ـ ما استطعت ـ تلك الضبابية التي شوّهت الصورة ، وأذكر ما تبيّن لي بعد الفحص أنّه أقرب إلى الصحة ، إن لم يكن هو الصحيح بعينه ، طبقاً لما ذكرت مكرراً عن الميزان الذي جعلته حكماً ومحكّماً لمعرفة الصحيح من السقيم ، وذلك ( بإختصار ) هو العرض على كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام لأنّهم عدل الكتاب ، إلتزاماً بحكم حديث الثقلين المتواتر برواية الفريقين من المسلمين (١).
وقد سبق أنّي تعرضت لهذا الجانب بشيء من التحقيق ، فبحثت الموضوع في أوائل الجزء الأوّل من هذه الحلقة حين ذكرت ينابيع علوم ابن عباس رضي الله عنه ، وكان هو في مهبّ العاصفة ، واستعرضت نماذج من سماع الصحابة للحديث النبوي الشريف كمّاً وكيفاً ، بدءاً من عمر ومروراً بالبراء بن عازب وأنس بن مالك وانتهاءاً بحذيفة بن اليمان ، وناقشت الذين دافعوا مستميتين عن بعض المكثرين من الصحابة كأبي هريرة ، وبعملية حسابية بسيطة تبيّن أنّ خلاصة أيام صحبة هذا الصحابي سنة واحدة وعدّة أشهر ، ومع قصر تلك المدّة فقد أخرج له أحمد في
____________________
(١) أنظر كتاب عليّ إمام البررة ١ / ٢٩٢.