مدخولا؛ فذلك بعيد عن قبول العقل ايّاه واذعانه له؛ اذ الموجود يشهد بضدّه. لانا نعلم يقينا انه ليس شيء من الحجج اقوى وانفع واحكم من شهادات المعارف المختلفة بالشيء الواحد ، واجتماع الآراء الكثيرة ، اذ العقل ، عند الجميع ، حجّة. ولا جل ان ذا العقل ربما يخيّل اليه الشيء بعد الشيء ، على خلاف ما هو عليه ، من جهة تشابه العلامات المستدلّ بها على حال الشيء ، احتيج الى اجتماع عقول كثيرة مختلفة. فمهما اجتمعت ، فلا حجّة اقوى ، ولا يقين احكم من ذلك.
ثم لا يغرّنك وجود أناس كثيرة على آراء مدخولة؛ فانّ الجماعة المقلّدين لرأي واحد ، المدّعين لامام يؤمّهم فيما اجتمعوا عليه ، بمنزلة عقل واحد ، والعقل الواحد ربما يخطئ في الشيء الواحد ، حسب ما ذكرنا ، لا سيما اذا لم يتدبّر الرأي الذي يعتقده مرارا ، ولم ينظر فيه بعين التفتيش والمعاندة. وان حسن الظنّ بالشيء او الاهمال في البحث ، قد يغطي ، ويعمي ، ويخيّل.
واما العقول المختلفة ، اذا اتفقت ، بعد تأمّل منها ، وتدرّب ، وبحث ، وتنقير (١) ومعاندة ، وتبكيت (٢) ، واثارة الاماكن المتقابلة ، فلا شيء اصحّ مما اعتقدته ، وشهدت به ، واتفقت عليه. ونحن نجد الالسنة المختلفة متفقة بتقديم هذين الحكيمين؛ وفي التفلسف بهما
__________________
(١) التنقير : التنقيب ، البحث.
(٢) التبكيت : من بكّت : غلب بالحجة ، قرّع وعنّف.