وليس الامر كذلك ، في الحقيقة : فان افلاطون هو الذي دوّن السياسات ، وهذبها ، وبيّن السير العادلة ، والعشرة (١) الأنسية المدنية ، وابان عن فضائلها ، واظهر الفساد العارض لأفعال من هجر العشرة المدنية ، وترك التعاون فيها. ومقالاته ، فيما ذكرناه ، مشهورة ، يتدارسها الأمم المختلفة من لدن زمانه الى عصرنا هذا. غير انّه ، لما رأى امر النفس وتقويمها اوّل ما يبتدئ به الانسان ، حتى اذا احكم تعديلها وتقويمها (٢) ، ارتقى منها الى تقويم غيرها (٣) ؛ ثم ، لم يجد في نفسه من القوة ما يمكنه الفراغ مما يهمّه من امرها ، افنى ايامه في اهمّ الواجبات عليه ، عازما على انه ، متى فرغ من الاهمّ الاولي ، اقبل على الاقرب الادنى ، حسب ما اوصى به في مقالاته في «السياسات والاخلاق».
وان ارسطوطاليس جرى على مثل ما جرى عليه افلاطون في اقاويله «ورسائله السياسية». ثم لما رجع الى امر نفسه خاصّة ، احس منها بقوة ورحب ذراع وسعة صدر وتوسع اخلاق وكمال امكنه معها تقويمها ، والتفرّغ للتعاون ، والاستمتاع بكثير من الاسباب المدنية.
فمن تأمل هذه الاحوال ، علم انه لم يكن ، بين الرأيين والاعتقادين ، خلاف ، وان التباين الواقع لهما كان سببه نقص في القوى الطبيعية في
__________________
(١) يعني بالعشرة الاجتماع.
(٢) بني افلاطون السياسة المدنية علي علم النفس ونظر إلي المجتمع من خلال الفرد وقسّم المجتمع إلي فئات مثابراً علي تقسيم النفس إلي قوي.
(٣) لا يعني بالتقويم : تقويم الغيرية ، بل يعني التعديل.