وهو ان الباري ، جل جلاله ، مدبر جميع العالم ، لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ، ولا يفوت عنايته شيء من اجزاء العالم ، على سبيل الذي بيناه في العناية ، من ان العناية الكلية شائعة في الجزئيات ، وان كل شيء من اجزاء العالم واحواله موضوع با وقف المواضع واتقنها ، على ما يدل عليه كتب التشريحات ومنافع الاعضاء وما اشبهها من الاقاويل الطبيعية ، وكل امر من الامور التي بها قوامه موكول الى من يقوم بها ضرورة على غاية الاتقان والاحكام الى ان يترقى من الاجزاء الطبيعية الى البرهانيات والسياسيات والشرعيات. والبرهانيات موكولة الى اصحاب الاذهان الصافية والعقول المستقيمة ، والسياسيات موكولة الى ذوي الآراء السديدة؛ والشرعيات موكولة الى ذوي الالهامات الروحانية. واعمّ هذه كلها الشرعيات ، والفاظها خارجة عن مقادير عقول المخاطبين. ولذلك لا يؤاخذون بما لا يطيقون تصوره.
فان من تصوّر في امر المبدع الأول انه جسم (١) ، وانه يفعل بحركة وزمان ، ثم لا يقدر ، بذهنه ، على تصوّر ما هو الطف من ذلك واليق به ، ومهما توهّم انه غير جسيم ، وانه يفعل فعلا بلا حركة وزمان ، لا يثبت في ذهنه معنى متصوّر البتّة. وان أجبر على ذلك زاد غيّا وضلالا؛ وكان فيما يتصوره ويعتقده معذورا مصيبا. ثم يقدر بذهنه على ان يعلم انه غير جسيم ، وان فعله بلا حركة؛ غير انه لا يقدر على
__________________
(١) يعني الفارابي بهم المجسمة الذين قالوا ان الله جسم ، مثل الحشوية.