فيها ، والآثار المحكيّة عن قدمائهم ، ليرى الاعاجيب عن قولهم بانه كان في الاصل ماء (١) ، فتحرك ، واجتمع زبد ، وانعقد منه الارض ، وارتفع منه الدخان ، وانتظم منه السماء. ثم ما يقوله اليهود والمجوس وسائر الامم ، مما يدل جميعه على الاستحالات والتغاير ، التي هي اضداد الابداع. وما يوجد لجميعهم مما سيؤول اليه امر السماوات والارضين من طيها ولفها وطرحها في جهنم وتبديدها ؛ وما اشبه ذلك مما لا يدل شيء منه علي التلاشي المحض. ولو لا ما انقذ اللّه اهل العقول والاذهان بهذين الحكيمين ، ومن سلك سبيلهما ممن وضّحوا امر الابداع (٢) بحجج واضحة مقنعة ، وانه ايجاد الشيء لا عن شيء ، وان كل ما يتكوّن من شيء ما فانه يفسد ، لا محالة ، الى ذلك الشيء؛ والعالم مبدع من غير شيء ، فمآله الى غير شيء؛ فيما شاكل ذلك من الدلائل والحجج والبراهين التي توجد كتبهما مملوّة منها ، وخصوصا ما لهما في الربوبية وفي مبادئ الطبيعة ، لكان الناس في حيرة ولبس. غير ان لنا في هذا الباب طريقا نسلكه يتبين به امر تلك الاقاويل الشرعية ، وانها على غاية السداد والصواب.
__________________
(١) يغمز الفارابي من قناة اليهود الذين يقولون ـ بنظره ـ بقدم العالم لأنه ورد في التوراة أن في البدء كان الماء ، ومن الماء تكونت الكائنات المختلفة.
(٢) معني الابداع عند الفارابي كما فهمه من افلاطون وارسطو هو ايجاد الشيء عن لا شيء ، وهذا المعني سبق اليه الكندي عندما قال انه ايجاد الأبيسات عن الليس (انظر رسالة الكندي في الفلسفة الأولي ، ضمن رسائله).