بذهني من ذلك العالم الى العالم الالهي ، فصرت كأني هناك متعلق بها؛ فعند ذلك يلمع لي من النور والبهاء ما يكلّ الألسن عن وصفه ، والاذان عن سمعه ؛ فاذا استغشي في ذلك النور وبلغت طاقتي ، ولم اقو على احتماله (١) ، هبطت الى عالم الفكرة؛ فاذا صرت الى عالم الفكرة ، حجبت عني الفكرة ذلك النور ، وتذكرت ، عند ذلك ، اخي يرقليطوس ، من حيث امر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة بالصعود الى عالم العقل». ـ هذا في كلام له طويل ، يجتهد فيه ويروم بيان هذه المعاني اللطيفة؛ فيمنعه العقل الكياني عن ادراك ما عنده وايضاحه.
فمن اراد ان يقف على يسير ما أومئوا اليه ، فان الكثير منه عسير وبعيد. فليحفظ ما ذكرناه بذهنه ، ولا يتبع الالفاظ متابعة تامّة ، لعله يدرك بعض ما قصد بتلك الرموز والالغاز. فانهم قد بالغوا واجتهدوا ، ومن بعدهم الى يومنا هذا ، ممن لم يكن قصدهم الحق؛ بل كان كدّهم العصبية وطلب العيوب؛ فحرفوا وبدلوا ، ولم يقدروا ، مع الجهد والعناية والقصد التامّ ، على الكشف والايضاح. فانّا ، مع شدة العناية بذلك ، نعلم انّا لم نبلغ من الواجب فيه الاّ ايسر اليسير ، لان الامر في نفسه صعب ممتنع جدا.
__________________
(١) هذا الكلام اقتبسه الفارابي من كتاب اثالوجيا لافلوطين وهو يصف فيه انجذابه الي الله في تجربة صوفية تذكرنا بفناء المتصوفة واتصالهم بالحضرة الالهية. وهذا لم يعرفه افلاطون ولا ارسطو.