ويقدم الفارابي الدليل علي تقدمهما ونبوغهما وهو شهادة أكثر الناس والمفكرين لهما. يقول : «بذلك نطقت الألسن وشهدت العقول ، ان لم يكن الكافة فمن الأكثرين من ذوي الالباب الناصعة والعقول الصافية». وهذه الشهادة صحيحة لا ينبغي الشك فيها لأنها صادرة عن الاجماع أو الأكثرية ، والاجماع العاقل حجة بنظره. وهو اذ يعتمد الاجماع يوافق علم اصول الفقه الاسلامي الذي جعل الاجماع مصدراً من مصادر التشريع الي جانب القرآن والسنة والاجتهاد. يقول معبراً عن رأيه : «وأما العقول المختلفة ، اذا اتفقت ، بعد تأمل منها ، وتدرب ، وبحث ، وتنقير ومعاندة ، وتبكيت ، واثارة الاماكن المتقابلة ، فلا شيء أصح مما اعتقدته ، وشهدت به ، واتفقت عليه. ونحن نجد الألسنة المختلفة متفقة بتقديم هذين الحكيمين ، وفي التفلسف بهما تضرب الأمثال ، وإليهما يساق الاعتبار ...».
ولعل القارئ يلاحظ من سياق الجمل وانسيابها وتدفقها ، علي غير ما عهدناه في كتابة الفارابي أو خطابه ، شدة اعجابه بأفلاطون وأرسطو ، وانفعاله بهما ، حتي يخيل الينا انه شاعر يكيل المديح لبعض العظماء الذين سحروه واثاروا عاطفته فاندفع يثني عليهم ويعدد مآثرهم ويسبغ عليهم الصفات الرفيعة الموجودة فيهم وغير الموجودة علي عادة الشعراء المداحين في الأدب العربي. وإلا كيف نوفق بين قوله فيهما انهما أبدعا الفلسفة وأنشأا أوائلها وأصولها ... الخ ، وقوله في كتاب تحصيل السعادة إن الفلسفة بدأت مع الكلدان في العراق ثم انتقلت الي مصر ، ومنها الي بلاد اليونان ... الخ.