(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) أي إنا أرسلناك بالشيء الثابت الذي لا تضلّ فيه الأوهام ، بسعد من أخذ به ، ويثلج قلبه بروح اليقين ، وهذا شامل للعقائد المطابقة للواقع ، وللشرائع التي توصل صاحبها إلى سعادة المعاش والمعاد.
(بَشِيراً وَنَذِيراً) أي لتبشر من أطاع ، وتنذر من عصى ، لا لتجبر على الإيمان ، فلا عليك إن أصروا على الكفر والعناد (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).
(وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي فلا يضرنّك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم ، فأنت لم تبعث ملزما ولا جبارا ، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا ، بل بعثت معلما وهاديا بالدعوة وحسن الأسوة ، كما قال : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).
وفي هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).
(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الطريقة المشروعة للعباد تسمي ملة ، لأن الأنبياء أملّوها وكتبوها لأمتهم ، وتسمى دينا ، لأن العباد انقادوا لمن سنها ، وتسمى شريعة لأنها مورد للمتعطشين إلى ثواب الله ورحمته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به ، ومن ثم كبر عليه إعراضهم عن إجابة دعوته ، وإلحافهم في مجاحدته ، مع موافقتهم له فى أصل دينهم ، من توحيد الله وتقويم ما اعوجّ من الفطرة الإنسانية ، بما طرأ عليها من التقاليد الفاسدة بالمعارف الدينية الصالحة إلى أقصى حد مستطاع.
وفي الآية تيئيس له عليه السلام من طمعه في إسلامهم ، إذ علق رصاهم عنه بما هو مستحيل أن يكون ، وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم ، لأنهم اتخذوا الدين جنسية لا يرضون عن أحد إلا إذا دخل في حظيرتها ، وانضوى تحت لوائها.