المعنى الجملي
روى عن ابن عباس أن هذه الآيات جاءت لتنزيه القرآن الكريم من ريب خاص اعترى اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقّرات كالذباب والعنكبوت لما نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) إثر تنزيهه من مطلق الريب بما تحداهم به في الآيات السابقة ، إذ طلب إليهم أن يأتوا بسورة مثله ، وبه أبان لهم أن ذلك ليس بمطعن في القرآن ، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر ، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثّل له ، فالعظيم يمثّل له بالعظيم ، والحقير يمثل له بالحقير ، ألا ترى إلى الإنجيل ، وقد مثّل غلّ الصدر بالنّخالة ، ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير ، وجاء في عباراتهم (أجمع من ذرة ، وأجرأ من الذباب ، وأضعف من بعوضة).
وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل ، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا ، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.
والناس إزاء هذا فريقان : مؤمنون يقولون إن الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها فالكل لديه سواء ، وكافرون يستهزئون بالأمثال احتقارا لها ، فحقت عليهم كلمة ربهم فأصبحوا من الخاسرين.