العقلاء على أصالة الظهور ـ كما تقدّم ـ أنّهم يعتبرون الظهور حجّة ـ كالنصّ ـ بإلغاء احتمال الخلاف ، أيّ احتمال كان. ومن جملة الاحتمالات التي تلغى ـ إن وجدت ـ احتمال نصب القرينة ، وحكمه حكم احتمال الغفلة ، ونحوها من جهة أنّه احتمال ملغى ومنفيّ لدى العقلاء.
وعليه ، فالمنفيّ عند العقلاء هو الاحتمال ، لا أنّ المنفيّ وجود القرينة الواقعيّة ؛ لأنّ القرينة الواقعيّة غير الواصلة لا أثر لها في نظر العقلاء ، ولا تضرّ في الظهور ، حتى يحتاج إلى نفيها بالأصل ، بينما أنّ معنى أصالة عدم القرينة ـ لو كانت ـ البناء على نفي وجود القرينة ، لا البناء على نفي احتمالها ، والبناء على نفي الاحتمال هو معنى البناء على أصالة الظهور ، ليس شيئا آخر.
وإذا اتّضح ذلك يكون واضحا لدينا أنّه ليس للعقلاء في هذه الصورة الثانية أيضا أصل يقال له : «أصالة عدم القرينة» ، حتى يقال برجوعه إلى أصالة الظهور ، أو برجوعها إليه ، سالبة بانتفاء الموضوع.
والخلاصة أنّه ليس لدى العقلاء إلاّ أصل واحد ، هو أصالة الظهور ، وليس لهم إلاّ بناء واحد ، وهو البناء على إلغاء كلّ احتمال ينافي الظهور ـ من نحو احتمال الغفلة ، أو الخطأ ، أو تعمّد الإيهام ، أو نصب القرينة على الخلاف ، أو غير ذلك ـ فكلّ هذه الاحتمالات ـ إن وجدت ـ ملغاة في نظر العقلاء ، وليس معنى إلغائها إلاّ اعتبار الظهور حجّة كأنّه نصّ لا احتمال معه بالخلاف ، لا أنّه هناك لدى العقلاء أصول متعدّدة وبناءات مترتّبة مترابطة ، كما ربّما يتوهّم ، حتى يكون بعضها متقدّما على بعض ، أو بعضها يساند (١) بعضا.
نعم ، لا بأس بتسمية إلغاء احتمال الغفلة بـ «أصالة عدم الغفلة» من باب المسامحة ، وكذلك تسمية إلغاء احتمال القرينة بأصالة عدمها ... وهكذا في كلّ تلك الاحتمالات ، ولكن ليس ذلك إلاّ تعبيرا آخر عن أصالة الظهور. ولعلّ من يقول برجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة (٢) ، أو بالعكس (٣) أراد هذا المعنى من أصالة عدم القرينة. وحينئذ
__________________
(١) أي : يعاضد.
(٢) وهو الشيخ الأنصاريّ ، كما مرّ.
(٣) وهو المحقّق الخراسانيّ ، كما مرّ.