اما الحسن فقد كان ينظر بالبصيرة الواعية الى أبعد مما ينظرون ، ويعرف بالعقل اليقظان من مشاكلهم اكثر مما يعرفون ، ويغار ـ بدينه ـ على الصالح العام أعنف مما يحسبون.
انه يدرك جيداً دقة الموقف ، بما يسيطر عليه من ميوعة الاخلاق ، في قسم عظيم ممن معه في جيشه ، وممن حوله في كوفته وكان ينتظر لهذا التفسخ الاخلاقي الذي باع الدنيا بالدين ، أثره السيئ في ظروف الحرب ، لو أنه استبق الى الحرب قبل أن يضطره الموقف اليها.
ورأى أن في تحمّل قليل من مفاسد هؤلاء كثيراً من الصلاح لسياسته الحاضرة مع ظرفه الخاص.
ورأى ان يعالج الموقف من وجهه الثاني ، فترفق بالناس ، ولم يتنكّر لاحد من رعيّته ولم يبد له أمراً ، وأخذ بسياسة التهدئة واسدال الستار ، لئلا يتسع الفتق وتعم الفتنة ، وارجأ التصفية الى وقتها المناسب لها ، ليضع الندى في موضعه والسيف على أهله.
وهنا يسبق الى الذهن استفهام لا يجوز للباحث أن يتجاوزه من دون أن يقف على سرّه. انه كان الاولى برئيس الدولة اذ جوبه من ظروفه بمثل هذا الجوّ المتلبد بالغيوم ، أن يعمد الى الحزم في استئصال الشغب ، فيستعمل الشدة ويكشف المؤامرات وينكّل بالخونة ويكيل لهم الجزاء الذي يستحقون. فما الذي حدا بالحسن عليهالسلام ، الى العزوف عن طريقة الشدة الى الرفق أحوج ما يكون موقفه الى الاول منهما تعجيلاً للاستقرار واستعداداً لمستقبله المهدّد بالحروب؟.
وللجواب على هذا الاستفهام ، وجوهه الثلاث التي ستقرؤها في خاتمة الفصل الثامن. ونقول هنا : ان الحسن لو أراد الاخذ بسياسة الشدة ـ وكانت من أوضح الاساليب التي تتخذ لمثل هذه الظروف ـ لتعجّل الفتنة عن عمد ، ولفتح ميدانه للثورات الداخلية التي لن تكون أقلَّ خطراً على