مع أنّ الإمام على وجمع من الصحابة لم يستسيغوا هذا النمط من التفكير وتحكيم قول الرجال على النص في الشريعة ، وعدّوا هذا العمل خارجا عن التعبّد المحض بأقوال اللّٰه وسنة رسوله ، فتراهم يعترضون على اتجاه الرأي وتحكيم قول الرجال في الشريعة! وبما أنّ الخليفة عثمان بن عفان كان من دعاة الرأي والاجتهاد على ما صرح هو بذلك لمّا اعترض عليه لإتمامه الصلاة بمنى ، فقال : «رأي رأيته» ، وقال لعلي عند اعتراضه عليه في نهيه من الإقران بين الحج والعمرة «ذلك رأي» (١) وغيرها.
وقد ثبت لديك أنّ المعارضين لعثمان في الوضوء كانوا من المحدثين ، لقوله : (إنّ ناسا يتحدثون) ، وبعد هذا فنحن ـ حسب الأدلة والقرائن ـ أن يكون الوضوء مما تصرف فيه الرأي وأثر فيه الاجتهاد ، حتى تحول مسح الرجلين فيه إلى غسل ، وقد مر عليك تعليل الحجّاج لذلك حين قال : ليس لابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
فإن هذا النص وغيره من النصوص شاهد على أن مسألة غسل الرجلين اجتهادية محضة ، والا فما كان للحجاج أن يستدل بالرأي لو كان عنده نصا نبويا ثابتا في الغسل.
وقبله الحال بالنسبة لأنس بن مالك فإنه كان لا يرتضي تعليل الحجّاج في الغسل ، ويستشهد بالقرآن على كذبه ، بقوله «صدق اللّٰه وكذب الحجاج ، قال تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) (٢) ، ومثله موقف ابن عباس من الربيع وقوله : إنّ الناس أبوا إلا الغسل ولا أجد في كتاب اللّٰه إلّا المسح» (٣).
فان في تعليل ابن عباس «أبى الناس إلّا الغسل» وكذا قول الإمام علي «هذا وضوء من لم يحدث» ، وقوله «لرأيت أنّ باطن القدم أولى بالمسح من ظاهرها» ، دلالات على أنّ الإمام عليا وابن عباس كانا لا يرتضيان ما رسم للناس من
__________________
(١) الموطأ ١ : ٣٣٦ / ٤٠.
(٢) الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٩٢ ، تفسير الطبري ٦ : ٨٢ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، الدر المنثور ٢ : ٢٦٢ ، تفسير الخازن ١ : ٤٣٥.
(٣) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ / ٤٥٨.