الانفتاح التي حصلت بعد أن قضى معاوية على خصومه واستتب له الحكم ، فراح ابن عباس يطارح ويفنّد وينشر آراءه بلا خوف من السلطات.
وهكذا رواية أنس بن مالك فهي متأخّرة جدّا إذا قيست بالنصوص الصادرة عن علي وابن عباس ، وقد ساعد على تصريح أنس بمعارضة الحجّاج ومن ثمّ وصولها إلينا هو الغطاء والحماية السياسية المحدودة التي حصل عليها أنس من عبد الملك بن مروان ، باعتباره خادم النبيّ صلىاللهعليهوآله وله القدسية عند المسلمين مما تتحاشى السلطة عادة الإيقاع به وتثوير الرأي العام ضده ، اللهم إلّا إذا اقتضت ذلك ضرورة ملحّة لإدامة حكومتهم.
اى أنّ المعارضة لوضوء عثمان بدأت في عهده من قبل (الناس) (١) وبعده من قبل الإمام علي وبعد علي واصل ابن عباس المسيرة وتبعه في ذلك أنس بن مالك في عهد الحجّاج بن يوسف الثقفي ، أى أنّ المعارضة مع وضوء عثمان بدأت في حياته واستمرت حتى أواخر عهد الصحابي أنس بن مالك! لما جاءت به النصوص.
فلو افترضنا استشهاد الإمام علي في إحدى حروبه تحت لواء النبيّ صلىاللهعليهوآله كحمزة وجعفر ، وموت ابن عباس أو مقتله أو اغتياله في زمن معاوية ، وموت أنس قبل إدراكه إعلان الحجّاج لاختلف وضع الوضوء اختلافا جذريا عما هو عليه الآن ، ولضاع الكثير من عيون رواياته.
ومما يحتمل في هذا الأمر أنّ بكاء أنس في دمشق وقوله (غيرتم كلّ شيء حتى الصلاة) كان من جملته بكاؤه على الوضوء المغيّر من قبل الحكّام ، لأنّك ترى الحجّاج يسعى لتحكيم الوضوء الغسلي المخالف للقرآن الحكيم ، وأنس يرى هذا التغيير جهرا وليس له قوة يصحّح بها الوضع إلّا الوقوف بوجه الحجّاج وتكذيبه موضحا سقم ما ذهب إليه.
فتأخّر النصوص جميعا عن زمن عثمان ، وصدورها عن أصحاب التعبد ، وفي أزمنة الانفراج التي حصل عليها هؤلاء الأعلام الثلاثة ، كلّها تؤكّد على أن الوضوء الغسلي عثمانيّ حكوميّ ، وأنّ الوضوء المسحي أصيل نبويّ.
ويعضّد هذا الكلام أننا نرى أكثر مرويات الوضوء عند الشيعة إنّما صدرت عن
__________________
(١) كما في خبر مسلم ١ : ٢٠٧ / ٨ وعنه في الكنز ٩ : ٣٢٤ / ٢٦٧٩٧.