هذا الفقه والفقه القرشي ، اتباع الاجتهاد ، منعة التدوين والتحديث ، حتى أنّه ليكاد يقف الفقهان على طرفي نقيض في المسائل المختلف فيها ، وهذا ما يؤكّد أنّ الحالة الفقهيّة الأنصاريّة العامّة تنتظم وتتفق في كثير من الأحيان مع السلك العلوي التعبدي ، وتتنافر مع الفقه القرشي الاجتهادي ، ولذلك قل ما نجد نزاعا فقهيّا بين أنصاريّ وبين الإمام علي طيلة عمر الإمام علي ، بخلاف الحزب القرشي الاجتهادي ، فقد وقع الخلاف الفقهي بين علي وبينهم حتّى طفح الكيل. فصرّح علي بذلك في كثير من كلماته وخطبه مع المفردات الفقهيّة المسجّلة في المصادر الناصّة على قيام الاختلاف على أشدّه بين الفقه العلوي التعبّدي ، وبين الفقه الاجتهادي القرشي.
واتّسع الخرق حين انتزى معاوية على الأمّة ، فراح يؤسّس ما شاء من فقه عثماني أموي كما وضحناه وسنشير إليه بعد قليل ، غير أنّ اللّافت للنظر هو أنّ معاوية كانت تخالفه الأنصار منذ كان واليا على الشام لعمر وعثمان ، وحتّى استلامه الملك ، وقد كان الصحابيّ النقيب الجليل عبادة بن الصامت الأنصاري رأس حربة الأنصار في مخالفة نهج معاوية الفقهي ففي حين كان معاوية يتعاطى الربا ولا يرى به بأسا ، أصرّ عبادة بن الصامت على معارضته ذلك الفقه المنحرف ، قائلا : أشهد أنّي سمعت رسول اللّٰه يقول ذلك ، وقال : إنّي واللّٰه ما أبالي أن لا أكون بأرض يكون بها معاوية (١). وحاول معاوية إقناعه بالانصراف عن رأيه الفقهي التعبدي بحرمة الربى ، قائلا له : اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره ، فقال عبادة : بلى وإن رغم أنف معاوية (٢) ، وذهب عبادة إلى المدينة منصرفا عن الشام ، وأخبر بذلك عمر فأمره بالرجوع إلى الشام وقال له : لا إمرة عليك (٣). دون أن يردع معاوية عن رأيه الفقهي بالقوة المعهودة عن عمر.
واعترض على معاوية في معاملاته الربوية أبو الدرداء ـ وهو من الأنصار ـ أيضا ، قائلا : سمعت رسول اللّٰه عن مثل هذا فقال : إلّا مثلا بمثل ، فقال معاوية : ما أرى
__________________
(١) انظر سنن النسائي ٧ : ٢٧٧ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٧٨.
(٢) تاريخ دمشق ٧ : ٢١٢.
(٣) تاريخ دمشق ٧ : ٢١٢.