ألا ترى كيف قال الله تعالى : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم : ٦٨ / ٤٩] معناه : لو لا ما عصمناه ورحمناه لأتى ما يذمّ عليه على أصل الجواز لا على فرع الوقوع.
وهذا من النّمط الذي قدّمناه في قصة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ حيث قال : (وَاجْنُبْنِي) [إبراهيم : ١٤ / ٣٥] وهي أن يعبد الأصنام وهو قد أمن من ذلك بالخبر.
وقوله تعالى في قصة شعيب ـ عليهالسلام ـ (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٧ / ٨٩]. وقوله تعالى لنبينا ـ عليهالسلام ـ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ١٧ / ٨٦] وهو تعالى لم يشأ ذلك ، بالخبر.
وأمّا قوله تعالى لنبينا عليهالسلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم : ٦٨ / ٤٨] يعني كيونس عليهالسلام في فراره حين ضاق صدره كما قدّمناه. وقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ١٥ / ٩٧] كما ضاق صدر يونس ، فلا تفرّ كفراره.
ولذا جاء عنه عليهالسلام (١) : «لا تفضّلوني على يونس بن متّى» لما قيل له : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) فنهاه أن يفعل فعله في قصّة مخصوصة خاف على قلوب عوام أمّته من اعتقاد هذه القولة على خلاف ما هي به ، فيعتقدون أنّها نهي له على العموم ، وحاشى وكلا ، وكيف يصحّ فيها العموم وقد أمره تعالى أن يتخلّق ويقتدي ويهتدي بأخلاقه وأخلاق نظرائه عليهمالسلام ، حيث قال له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٦ / ٩٠] فقال ذلك والله أعلم.
__________________
(١) في صحيح مسلم ٤ / ١٨٤٤ من حديث أبي هريرة رضياللهعنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تفضّلوا بين أنبياء الله ... ولا أقول إنّ أحدا أفضل من يونس بن متّى عليهالسلام». وفي صحيح مسلم أيضا ٤ / ١٨٤٦ من حديث ابن عبّاس رضياللهعنه عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متّى».