ومعنى (تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) : أتوه من أعاليه ولم يأتوه من بابه ، ولذلك فزع منهم فإنّه خاف أن يكونوا لصوصا ، أو يكون بعض رعيّته ثاروا عليه. والمحراب في اللّسان : صدر المجلس وأحسن ما فيه ، ولذلك سمّي محراب المسجد محرابا. وقيل :
المحراب : الغرفة. وفي فزعه منهم ـ وكانوا ملائكة ـ دليل على أنّه ليس من شرط النّبوّة أن يعرف النّبيّ كلّ من يأتيه من الملائكة حتى يعرّف به ، وفيه أيضا دليل على أن الملائكة يتصوّرون على صور الآدميّين بأمر ربّهم وقدرته لا بقدرتهم ، وفي تصورهم كذلك عريض من القول لسنا الآن له ، لكنّ الذي يصحّ منها وجهان : إمّا أنهم ينسلخون من أبعاضهم (١) ، أو تنعدم من أجسامهم بالإمساك عن خلق الأعراض فيها ما شاء الله وتبقى ما شاء ، ثم يعيدهم إلى مقامهم كما كانوا قبل ، فإنّه ليس من شرط الحيّ العالم أن تكثر أجزاؤه ولا أن تقلّ ، فإن العالم منه جزء فرد.
وأمّا قوله (لا تَخَفْ خَصْمانِ) [ص : ٣٨ / ٢٢] ، ولم يكونا خصمين على الحقيقة ، ولا بغى بعضهم على بعض ، ولا اتّفق لهما ممّا ذكراه شيء (٢) ، ففيه دليل على أنّ الكذب أنّما يقبح شرعا ، فمن أمره الله تعالى أن يخبر بما وقع وبما لم يقع فأخبر به فهو مطيع ممتثل فاعل الحسن. ولذلك جاز لهم أن يقولوا للمعصوم : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ
__________________
للواحد والجمع والذكر والأنثى لأنّه مصدر خصمته خصما ، كأنك قلت ذو خصم.
وفي اللسان أيضا (ض ي ف) : والضّيف : المضيّف ، يكون للواحد والجمع كعدل وخصم.
(١) كذا عبارته ، وفي الفصيح أن (إمّا) إذا وردت في عبارة تكرّر ولا تتلقّى بحرف آخر ك (أو) وغيره ، قال تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً).
(٢) أجيب أيضا بعدد من الأجوبة : ـ قالوا لا بدّ في الكلام من تقدير ، فكأنهما قالا : قدّرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقّ ، قال القرطبي : وعلى ذلك يحمل : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) لأن ذلك ، وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبّه داود على ما فعل.
ـ وقال الثعلبي : قيل كان المتسوّران أخوين من بني إسرائيل لأب وأمّ ، فلما قضى بينهما بقضيّة قال له ملك من الملائكة : فهلاّ قضيت بذلك على نفسك يا داود؟ ثم رجح الثعلبي الرواية الأولى أي أنهما كانا ملكين. ـ