الدنيا حين ملكها فتاب وأناب ، وأعرض عن اللهو والارتياب ، وشرع في الجد والاجتهاد ، وأقبل على تحصيل الزّاد النّافع للمعاد ، وشهر مذهب أهل السّنّة في البلاد ، وغرس أهل العلم والفقه والتّصوّف بين العباد ، وبنى المدارس ، والخوانق ، والأربطة ، والقناطر ، فمهّد له أحسن مهاد ، فلمّا فتح بيت المقدس المكرّم المعظّم في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، سرّ سرورا عظيما ، وفرّق جميع ما حصّله من القدس الشريف ، وغيره على الناس حتّى لم يبق معه شيء ، ومات ولم يخلّف في خزانته من الذّهب والفضّة إلّا سبعة وأربعون درهما ، وجرما واحدا من الذّهب صوريا ، ولم يخلّف دارا ولا عقارا ، ولا ملكا ، ولا بستانا ، ولا قرية ، ولا مزرعة ، توفّي بعد صلاة الصّبح من يوم الأربعاء سابع عشرين صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة ، وغسّله الدّولعي خطيب دمشق ، وكان من الأكابر ، فأظلمت البلاد من بعده ، واستوحشت العباد لفقده ، عامله الله بلطفه العظيم ، وأوصله إلى جنّات النّعيم.
ثمّ تملّك ولداه الأفضل والعزيز ، ثمّ أخوه العادل أبو بكر ، ثمّ الملك النّاصر العزيز بدمشق ، ثمّ المعظم عيسى ، ثمّ الأشرف موسى ، ثمّ الصّالح إسماعيل ، ثمّ الملك الصالح نجم الدين أيّوب سنة سبع وأربعين وستمائة.
ثمّ كانت دولة الأتراك لمّا مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب ، أجلس ولده المعظّم فلم تغن عنه ، فطوته أيدي الزّمان.
فنهض مماليك والده ، فدبّروا الملك ، فأحسنوا ، وكسروا الأفرنج وأخذوا ملكهم فرنسيس ، ثمّ اتّفقوا على سلطنة الملك المعزّ عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي ، وهو أول من ملك من الأتراك بالدّيار المصرية في سنة ثمان وأربعين وستمائة ، ثمّ الملك المظفّر قطز في سنة سبع وخمسين وستمائة.