أشد بأسا وأقوى شكيمة. ودخل تبدل كبير في العادات بانتشار المدارس الأجنبية في الجبل منذ نيف وستين سنة ، واستبدلت العادات الإفرنجية ببعض العادات الوطنية إلا قليلا. وحمل الذين عادوا من المهاجر بعض عادات من نزلوا عليهم ، فأصبحت عادات الجبليين مزيجا من الغربية والشرقية. ويكثر التقليد في سكان الشمال أكثر منه في سكان الجنوب. وهناك فروق ليست بقليلة بين سكان الجرود الشمالية والجنوبية.
كان اللبنانيون من أول من نفخ في ديارهم بوق الهجرة إلى أميركا ، ولبوا دعوتها سراعا قبل غيرهم من الشاميين ، لأن حاصلات أرضهم قليلة لا تكفي لعولهم. وكانوا من قبل مولعين بمواطنهم ، لا يحبون أن يتنقلوا ولو في أرجاء هذا القطر ، وكان من يسافر من إحدى قرى الجبل إلى دمشق يضرب به المثل في بعد الهمة وكثرة الشجاعة. وكثيرا ما كانوا يتغنون بقولهم :
جوزك يا مليحة |
|
راح عالشام وحده |
وكان أقصى ما يبلغه تصورهم من البعد «أنطاكية» شمالي الشام و «دنقلة» في السودان ، ويقال إلى اليوم «أوصلك إلى دنقلة». وكان إذا نشط أحدهم للسفر إلى مصر أو الاستانة ، يعد كمن وصل إلى المريخ ، يقصدونه من القاصية ليسمعوا ما يقص عليهم من عجائب رحلته. فلما بدأوا بالهجرة وكثر عديدهم ، واستسهلوا ركوب المخاطر في بلاد المهجر ، ونجحوا وارتاشوا ، تبدلت عقليتهم بعض الشيء ، وهم كأكثر من يهاجرون في طلب الرزق يعتمدون على أنفسهم ومضائهم وتضامنهم ، لا علم يحميهم ولا دولة يهمها أمرهم. حملوا في جنوبهم عزما وحزما ، وحملوا أيضا روح التحزب والفرقة الذي امتازوا به لما نشأهم عليه رؤساؤهم. وكان المتعلمون منهم في هذه السبيل أشد مراسا من العوام. ولما كان العائدون من طبقة الفلاحين والعاملين إلى قراهم من ديار المهجر ، أكثر من الراجعين من أصحاب المعامل والمزارع والتجارات ، وبعبارة ثانية أن عدد الراجعين الأميين كان أوفر من عدد الآيبين من المتعلمين والمغتنين ـ أصبح تسرب العادات الغربية لا يكاد يشعر به بين العامة على كثرتهم ، وهو ظاهر محسوس بين الخاصة على قلتهم.
وقصارى ما يقال في هذا الباب أن أهل لبنان أخذوا مدنية الغرب من