بين الدين والدنيا إذا تعلقت هممهم أن ينشئوا لهم جوامع يقصدون بها تخليد ذكرهم ونيل الثواب والأجر. ثم أتت قرون وقد أخذ بعض الناس ولا سيما الحكام يعمرون المساجد ويقفون عليها حتى يحفظوا بحجتها بعض ثرواتهم لذراريهم ، وفي هذه العصور الأخيرة وقع التخليط وكثرت المنافسة في إقامة المساجد والجوامع ، حتى في الأماكن التي لا يحتاج فيها الناس إلى مساجد كثيرة إما لكثرتها أو لقلة المصلين في جوارها. وأشبهت دمشق القاهرة في عهد المماليك وبعدهم ، فكانوا يعمرون الجامع قرب أخيه على أشبار قليلة منه. وما حدثت البانين أنفسهم أن يشترك في إقامة مسجد جامع بضعة من أهل الخير أو عشرات منهم ، لأن المقصد الأول استحال في الآخر إلى إحراز شهرة وإذا عمر إنسان جامعا بالاشتراك مع غيره يضيع اسمه ، وغايته أن يقال بنى فلان مسجدا ، وهذا مسجد فلان ، أو أن ينتفع هو أو أولاده بمغل وقف الجامع.
وكان للملوك والأمراء في كثرة المساجد وقلتها يد طولى ومنها أن الملك أو الأمير أو غيره من طبقات الحكام والولاة إذا آنس منه قومه رغبة في الاستكثار من المساجد والقربات جاروه على أفكاره وتقربوا إليه بمثل هذه الأعمال الصالحة ، وربما تقاضاهم هو ذلك سرا حتى يستخرج بذلك أموالهم وتوزع في الرعية فلا تجمد الثروة في يد واحدة. قال ابن تغري بردي في حوادث سنة (٨٤٤) : لما كانت الملوك السالفة تهوى النزه والطرب عمرت في أيامهم بولاق وبركة الرطلي وغيرها من الأماكن ، وقدم إلى القاهرة كل أستاذ صاحب آلة من المطربين وأمثالهم من المغاني والملاهي إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق ، وسار في سلطنته على قدم هائل من العبادة ، والعفة عن المنكرات والفروج ، وأخذ في مقت من يتعاطى مسكرات من أمرائه وأرباب دولته ، فعند ذلك تاب أكثرهم وتصولح وتزهد ، وصار كل واحد يتقرب إلى خاطره بنوع من أنواع المعروف ، فمنهم من صار يكثر من الحج ، ومنهم من تاب وأقلع عما كان فيه ، ومنهم من بنى المساجد ، ولم يبق في دولته ممن استمر على ما كان عليه إلا جماعة يسيرة.