ولو قال : «نعبدك ونستعينك» لذهبت تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن ، وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا عن أرباب علم البيان.
ومما ورد فيه التقديم مراعاة لنظم الكلام أيضا قوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)(١) ، فإن تقديم الجحيم على التصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على الفعل إلا أنه لم يكن ههنا للاختصاص ، وإنما هو للفضلية السجعية.
ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن مما لو قيل : «خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم».
ولهذا النوع من التقديم نظائر كثيرة في القرآن منها أيضا قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ)(٢) الْقَدِيمِ ، فتقديم المفعول «القمر» على الفعل هنا ليس من باب الاختصاص ، وإنما هو من باب مراعاة نظم الكلام ، ولو أنه قال : «وقدرنا القمر منازل» لما كان بتلك الصورة في الحسن.
ومنه كذلك قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ،) فالغرض البلاغي من وراء تقديم مفعول كل من الفعلين السابقين عليه هو مراعاة حسن النظم السجعي.
* * *
وهناك نوع آخر من التقديم لا يرجع إلى تقديم أحد ركني الإسناد على الآخر ، ولا إلى تقديم أحد متعلقات الفعل عليه ، وإنما هو مختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك. وهذا النوع من التقديم مما لا يحصره حد ولا ينتهي إليه ، وهو يتمثل في صور شتى منها :
__________________
(١) صلوه بفتح الصاد وتشديد اللام : أدخلوه فيها.
(٢) العرجون بضم العين : العود الغليظ المتصل بالنخلة وفي آخره عناقيد البلح ، فإذا قطع منه شماريخ البلح يبقى منه جزء على النخلة أعوج يابسا ، وهذا هو حال القمر في أول الشهر وآخره.