والعجيب أنه لم يحدث بعده تغيير يذكر في هذين العلمين ، لأنه استطاع أن يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كل القواعد البلاغية فيهما ، وكان ذلك إيذانا بأن تتحول تلك القواعد من بعده إلى قوانين جامدة. وقد فتن البلاغيون بعمله فراحوا يرددون كلامه ويقفون عنده لا يتجاوزونه إلى عمق أو ابتكار ، كأنما البحث في البلاغة قد انتهى بعبد القاهر الجرجاني.
نقول ذلك لأن جهود البلاغيين من بعده انحصرت في جمع قواعد علوم البلاغة التي وضعها ، وفي ترتيب أبوابها ، واختصارها. وكان هذا الاختصار يصل أحيانا من الغموض والصعوبة إلى حيث يحتاج إلى شرح يوضح غامضه ، ويذلل صعابه ، فيقبل عليه الشراح ، ومنهم من يتوسع في الشرح إلى الحد الذي يجعل الإلمام بحقائق العلم أمرا عسيرا. وهكذا وصلت البلاغة نتيجة لذلك إلى أقصى ما يمكن من اختصارات وأقصى ما يمكن من شروح.
ومن أوائل من اتجهوا إلى الاختصار والتلخيص الفخر الرازي «٦٠٦ ه» في كتابه «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» ، فقد اختصر فيه كتابي «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» لعبد القاهر. وفي ذلك يقول : «لما وفقني الله لمطالعة كتابي دلائل الإعجاز ، وأسرار البلاغة ، التقطت منهما معاقد فوائدهما ، وجمعت متفرقات الكلم / في الضوابط العقلية».
وظهر بجانب الرازي وفي عصره عالم ضرب بسهم وافر في الفلسفة والمنطق وأصول الفقه والاعتزال واللغة والبلاغة ، وكان له تأثير خطير على البلاغة العربية.
ذلك العالم هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦ للهجرة ، صاحب كتاب «مفتاح العلوم» الذي جعله أربعة أقسام : قسما في علم الصرف ، وقسما في علم النحو ، وقسما في علوم البلاغة ، وقسما في علم الشعر.