الجرجاني «٤٧١ ه» ، والزمخشري محمود بن عمر «٥٣٨ ه» والفخر الرازي «٦٠٦ ه» استطاع السكاكي تحقيق أمرين : أحدهما أن ينفذ إلى عمل ملخص دقيق لما نثره أولئك البلاغيون في كتبهم من آراء ، وكذلك لما توصل إليه هو من أفكار ، وثانيهما أن يصوغ كل ذلك في صيغ مضبوطة محكمة ، مستعينا فيها بقدرته المنطقية في التعليل والتعريف والتقسيم والتفريع والتشعيب. وبهذا تحولت البلاغة في مفهومه أولا وفي تلخيصه ثانيا إلى علم بأدق المعاني لكلمة علم ، فهي عنده قوانين وقواعد صبت في قوالب منطقية جافة باعدت بينها وبين وظيفتها الأساسية من إمتاع النفس ، وإرهاف الحس ، وتنمية الذوق ، والتمكين لذوي المواهب الأدبية من القدرة على الخلق والإبداع.
وقد عرّف السكاكي علم المعاني بقوله : «إنه تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره».
وهذا التعريف وحده نموذج لتأليف السكاكي الذي أفرغه في أسلوب علمي منطقي بعيد كل البعد عن جلاء العبارة ووضوح التأليف عند من تقدموه من البلاغيين.
فهو مثلا في هذا التعريف لا يقصد «بتراكيب الكلام» مطلق تراكيب ، وإنما يقصد تراكيب البلغاء لا التراكيب الصادرة عمن لا حظ لهم من البلاغة. وهو كذلك يقصد «بخواص التراكيب» ما يسبق إلى الفهم منها عند سماعها لكونها صادرة عن البليغ ، كما يقصد أيضا «بالإفادة» «الفهم» من قبل ذي الفطرة السليمة.
فالتعريف كما ترى لا يجود بمعناه في سهولة ويسر ، وإنما هو بعنّي طالبه عناء شديدا حتى يصل إليه ، إن وصل. ومن أجل هذا كثر شراح السكاكي وملخصو بلاغته كما سنبين فيما بعد ، وكأن البلاغة عند كل من تصدى لشرح أو تلخيص ما ورد عنها في كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي أقول كان