فإن بعض الناس يتأوله على معنى : تحلّنا وتنزلنا. من غير أن تنتقل إلينا ، على المذهب الذي ذكرناه في : ذهبت به ، من غير أن تذهب معه.
قال أبو سعيد : والأمر عندي على خلاف ذلك ، من قبل أنهم لما رأوا ديارهم اشتاقوا إليها ، وتصوروها ، فصارت بالتصوّر كأنها معهم نازلة في الديار ، فهي قد أنزلتهم ونزلت معهم.
وأما قول الفرزدق :
وما مثله في النّاس إلا مملّكا |
|
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (١) |
فإن فيه ضروبا من العيوب من التقديم والتأخير. وحق الكلام على ما ينبغي أن يكون عليه اللفظ ؛ وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه ؛ وذلك أن الفرزدق مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، خال هشام بن عبد الملك ، وأبو أم هشام بن عبد الملك أبو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، فقال : " وما مثله" ، يعني إبراهيم الممدوح ، " في الناس حي يقاربه" ، أي أحد يشبهه ، " إلا مملك" ، يعني خليفة ، " أبو أمه" ، يعني أبو أم الخليفة ، " أبوه" ، يعني أبو الممدوح ؛ فالهاء في" أمه" تعود إلى الملك ، وهو هشام بن عبد الله ، والهاء في" أبوه" تعود إلى إبراهيم بن إسماعيل ، ففرق بين المبتدأ والخبر بما ليس منه ، وذلك أن قوله : " أبو أمه" مبتدأ في موضع نعت الملك ، ففرق بينهما بقوله : " حيّ" و" حيّ" هو خبر" ما" ، وفرق بين قوله : " حيّ" وبين قوله : " يقاربه" وهو نعت" حيّ" ب" أبوه" وهو خبر مبتدأ ، وقدم الاستثناء ، وترتيب الكلام مع تقديم الاستثناء أن يقال : " وما مثله في النّاس" إلا مملّكا أبو أمّه أبوه حيّ يقاربه" ، كما تقول" ما مثل زيد إلا عمرا أحد". فلو لم يكن في هذا البيت إلا تقديم الاستثناء فقط ما كان معيبا ، والذي فيه عيبان ، أحدهما : الفصل بين المبتدأ وخبره بخبر" ما" ، والآخر : الفصل بين خبر" ما" ونعته بخبر المبتدأ.
ومن ذلك قول الفرزدق :
هيهات قد سفهت أميّة رأيها |
|
فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها |
حرب تردّد بينهم بتشاجر |
|
قد كفّرت آباؤها أبناؤها (٢) |
وتقديره : هيهات قد سفهت أميّة حلماؤها رأيها ، فاستجهلت سفهاؤها ، فأبدل
__________________
(١) البيت في ديوانه ١٠٨ ، واللسان (ملك).
(٢) البيتان للفرزدق في اللسان (كفر) ، ولا يوجد منهما إلا الأول في ديوانه ص ٨.