يعني : أن الاختيار إعمال الثاني ؛ لأنه لا فرق في المعنى بين إعمال الأول والثاني ، ونحن نكتسب بإعمال الثاني حمل الشيء على ما يقرب منه ويجاوره ، والعرب تختار حمل الشيء على ما يقرب منه ، وقد بينا هذا.
قال سيبويه : (كما أن" خشّنت بصدره وصدر زيد" ، وجه الكلام ، حيث كان الجر في الأول ، وكانت الباء أقرب إلى الاسم من الفعل ، ولا تنقض معنى سوّوا بينهما في الجر كما يستويان في النصب).
قال أبو سعيد يعني : أن قولنا : " خشنت بصدره وصدر زيد" ، أجود من" خشنت بصدره وصدر زيد" وكلاهما جائز ؛ لأنك إذا جررت حملته على مجرور يجاوره لفظا ، وإذا نصبت حملته على المعنى ، كأنك قلت : " خشنت صدره وصدر زيد" وحمله على اللفظ أجود ؛ لأنه معه وإلى جنبه ، فكذلك الأول حمله على ما يقاربه ويجاوره أجود. ولا فرق بين النصب والجر في" خشنت" فلما لم يكن فرق كان مطابقة اللفظ أولى بالاختيار ، كما أنهم لو نزعوا الباء لسوّوا بين الأول والثاني في النصب ، وقالوا : " خشنت صدره وصدر زيد".
قال سيبويه : (ومما يقوى ترك نحو هذا لعلم الخاطب ، قوله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ)) (١).
أراد و" الحافظاتها" والذاكرين الله كثيرا والذاكراته. فترك مفعول الثاني لعلم المخاطب بذلك والاكتفاء بالأول لو كان منصوبا.
وكذلك قوله : (" ونخلع ونترك من يفجرك").
فلو كان منصوبا ب" نخلع" كان الاختيار أن يقول : ونخلع ونتركه من يفجرك ، ونصبه ب" نخلع" جائز أيضا ، فقد ترك إما مفعول" نخلع" وإما مفعول" نترك" اكتفاء بعلم المخاطب.
قال سيبويه : (وقد جاء في الشعر من الاستغناء أشد من هذا ، وذلك قول قيس بن الخطيم :
__________________
(١) سورة الأحزاب ، آية : ٣٥.