أفلست الأمم في مناقشتها ، وهزمت حجتها أمام حجة الرسل وبيانهم ، لم يجدوا سبيلا إلا تأزم الوضع والدخول في صدام وعمل عدواني ، فتوعدوا رسلهم بأحد أمرين :
إما الطرد والإخراج والنفي من البلاد ، وإما العودة إلى ملتهم وشرعهم الموروث عن الآباء والأجداد ، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا ، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف ٧ / ٨٨] وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء ١٦ / ٧٦] وقال سبحانه في إلجاء النبي إلى الهجرة : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ..) [الأنفال ٨ / ٣٠].
والسبب في هذا التهديد والوعيد : اغترار الكفار بقوتهم وكثرتهم ، وقلة عدد المؤمنين وضعف عددهم. وأما قولهم (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) فلا يعني أن الرسل كانوا وثنيين ، وإنما كانوا في ظاهر الأمر معهم ، من غير إظهار مخالفة ، فظن القوم أنهم كانوا على دينهم.
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ..) أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم : لنهلكن الظالمين المشركين ، ولنسكننكم أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم ، عقوبة لهم على تهديدهم وإنذارهم بالطرد والإبعاد.
وهذا تهديد ووعد من الله للمشركين في مقابل تهديدهم الرسل ، وشتان بين التهديدين ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧٠ ـ ١٧٣] وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقال عزوجل : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٥] وآيات كثيرة أخرى في المعنى.