دون انتظار مقابل أو عوض دنيوي من الناس ، فإن ذا القرنين الذي أيده الله قال : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ، ولكن أعينوني بقوة الأبدان ، أي بالرجال وعمل الأبدان والآلة التي أبني بها السد (الردم). وهذا بداية النجاح في العمل ، فإن القوم لو جمعوا له خرجا ، لم يعنه أحد ، ولتركوه يبني ، فكان عونهم أسرع في إنجاز العمل وإنجاح المشروع.
٥ ـ تدل الآية أيضا : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) على أن من واجب الملك أو الحاكم أن يقوم بحماية الخلق في حفظ ديارهم ، وإصلاح ثغورهم ، من أموالهم ، بشروط ثلاثة هي :
الأول ـ ألا يستأثر عليهم بشيء.
الثاني ـ أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم.
الثالث ـ أن يسوّي في العطاء بينهم على قدر منازلهم.
فإذا احتاج الحاكم إلى دعم رعيته ، بذلوا أنفسهم قبل أموالهم ، ويؤخذ بقدر الحاجة من أموالهم ، وتصرف بتدبير ، فهذا ذو القرنين أبى أخذ شيء من أموال القوم ، قائلا : إن الأموال عندي والرجال عندكم ، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى.
وضابط الأمر : أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض ، فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرا ، وينفق بالعدل لا بالاستئثار ، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر (١).
٦ ـ إن الحديد والنحاس من مرتكزات الصناعة الثقيلة قديما وحديثا ، فقد كانا أداة بناء السد المنيع على يد ذي القرنين ، وهما الآن المادة الأساسية في الصناعات المختلفة الحربية والسلمية.
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٦٠