نلمس فيها عملا جاهدا في محو ملامح الطابع الجاهلي الذي منه انبثقت مجموعة مؤمنة بهذا القرآن ، تطهيرا له من رواسب الجاهلية واستجاشة للدفاع عن كينونة الإنسان المميزة ، وتعريفا عريقا عريفا بأعداء ، الكتلة المؤمنة المتربصين بها كل دوائر السوء ، والمتميّعين فيها من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، كشفا لحيلهم ضدها وبينا لفساد تصوراتهم ، وسنّا لقوانين وضوابط ربانية تنظّم كل حياة المؤمنين وتصبها في القالب التنفيذي الثابت الضابط ، دون الهابط الخابط.
ولقد كان حقا حقيقا بالقرآن أن يصنع الإنسان بقمة الصنع ، لأنه من صنع المصدر الذي صنع الإنسان : (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ) .. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟.
إن الجاهلية الأولى وهذه الجاهلية الحاضرة المتحضرة ، تجدان ـ على سواء ـ مكانهما في النصوص التربوية القرآنية ، وتجدان ايضا من يأخذ بأيديهما من مكانتهما السحيقة الى القمة السامقة التي يحققها القرآن على ضوء تربياته وتزكياته العالية الغالية.
هذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق ـ بكل بيان وإتقان ـ بين الجاهليات على مدار الزمن ، وبين إنسان القرآن ، المتمثل فيه خططه وارشاداته المنقطعة النظير بين كل بشير ونذير.
في مستهل السورة نجد تقريرا غريرا للربوبية السامية ووحدتها ، وللإنسانية ووحدة أصلها ونسلها ، في وصلها وفصلها ، ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة دون اية أثرة او عسرة ، واتصالها سليما بوشيجة الرحم ، مع استجاشة هذه الروابط في الضمير الإنساني ككل ، واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها ، وحماية الضعفاء عن طريق التكافل بين الأسرة