(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) وهم أشراف القوم وخواصهم الذين يملأون بكثرتهم وقوتهم العيون والقلوب ، وتمتلئ منهم صدور المجالس فهم المستكبرون من قومه ، والملأ في الأصل بين ملأ الشر وملأ الخير ومن الخير : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٣٧ : ٨) ويقابلهم الملأ الأدنى وهم الشريرون المعارضون للرسالات على طول الخط ، وهنا قالوا : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث تخالف ما نعيشه من حياة الإشراك والحرية الشهوانية ، ونحن أركان المجتمع وأصوله ، فما يعارضنا ـ ونحن على هدى الحياة الراقية ـ إلّا من هو في ضلال مبين.
وكيف يواجههم نوح (عليه السّلام) أمام رمية الضلالة وهي شر رمية؟ إنه فقط سلب لها إيجابا لرسالته من رب العالمين : (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فلو كانت الرسالة الربانية ـ الثابتة لي بمثبتاتها ـ ضلالة ، فأنا إذا في ضلال مبين ، لأن ربي مضل وأنتم على هدى! فهل أنتم مائلون إلى هذه الطنطنة الغوغاء ، قائلون غائلون هذه الغائلة النكراء؟ وأنتم ترونه رب الأرباب!.
وترى كيف يجيب عن (ضَلالٍ مُبِينٍ) ب (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) دون (ضَلالٍ مُبِينٍ) نفسه سلبا لما أثبتوه؟ علّه يعني ب «ضلالة» كل أنواعها لا فقط (ضَلالٍ مُبِينٍ) ف (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) من مبين وغير مبين.
(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) دونما زيادة أو نقصان ، وقد يعني جمع «رسالات» دون «رسالة» الجمعية الرسالية ، في جمعية الأصول والفروع الأحكامية ، فان كل زاوية من زوايا الرسالة هي رسالة ، مهما كانت مجموعها أيضا رسالة ، (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) لصالحكم (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) رسالة (ما لا تَعْلَمُونَ) منفصلين عن رسالة الله.
فقد اختصرت واحتصرت رسالة نوح (عليه السّلام) في مثلث هو هندسة لصرح الرسالات كلها : ١ (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) تبليغا بليغا بالحجج الربانية الكافية الوافية.
٢ (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) نضجا لبراهين الرسالة وفرامينها في قلوب بذلك