«قضم الدنيا قضما ، ولم يعيرها طرفا ، أهضم أهل الدنيا كشحا ، وأخمصهم من الدنيا بطنا ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، وحقر شيئا فحقره ، وصغر شيئا فصغره .. ولقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرفع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه ، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها ، فأعرض عن الدنيا بقلبه ، وأمات ذكرها من نفسه ، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ..» (٨٨ ح) ـ
ذلك ، وهذه سنة الأنبياء مصلحية صالح الدعوة المستقيمة «ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العيقان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها ـ
ولكن الله سبحانه جعل رسله أولى قوة في عزائمهم ، وضعفا فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى ـ ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال ، وتشد إليه عقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الإعتبار ، وأبعد لهم من الاستكبار ، ولأمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستطانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أمورا له خاصة لا تشوبها من غيرها شائبة ، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل» (الخطبة القاصعة ٢٣٤).