منه رغما عن تخطئته للجاحظ ؛ وقال عنه ابن حوقل «كتاب نفيس له فى معرفة الأمصار» (٥٦) ، أما المقدسى فقد أبدى بعض التشدد وذلك بقوله «وأما الجاحظ وابن خرداذبه (٥٧) فإن كتابيهما مختصران جدا لا يحصل منهما كبير فائدة» ، وعلى أية حال فإن تأثيره على الأجيال الأدبية التالية لا يرقى إليه الشك حتى أن ابن الفقيه مثلا اعتبر مقلدا له (٥٨) ، ويتضح هذا من ألفاظ المقدسى أيضا «وإذا نظرت فى كتاب ابن الفقيه فكأنما أنت ناظر فى كتاب الجاحظ والزيج الأعظم» (٥٩). ومن وقت لآخر كانت تظهر مقتطفات من كتاب الجاحظ هذا فى مجموعات أدبية بحتة ؛ وأحد كبار المعجبين بالجاحظ وهو الثعالبى (توفى عام ٤٢٩ ه ـ ١٠٣٨) كان يعنى على ما يبدو هذا الكتاب عند ما أشار إلى «خصائص البلدان» للجاحظ (٦٠). وقد تم الكشف فى الآونة الأخيرة عن مصنف للجاحظ يقف دليلا على اهتمامه الواسع بالجغرافيا ويمثل على وجه العموم أهمية كبرى بالنسبة للتاريخ الحضارى للعالم الإسلامى ، كما يمكن اعتباره أول محاولة للعرب فى الجغرافيا الاقتصادية أو على الأصح جغرافيا الاستيراد (Import Geagraphy). أعنى بذلك الرسالة الصغيرة الحجم المعروفة باسم «التبصر بالتجارة» التى عثر عليها بتونس العلامة العربى المعروف حسن حسنى عبد الوهاب ونشرها فى مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق (١) (٦١). وبالرغم من أنه لم يرد أىّ ذكر لهذه الرسالة فى ثبت مصنفات الجاحظ (٦٢) إلا أن صحة نسبتها إليه لا يتطرق إليها الشك ، سواء من ناحية الاستقراء الداخلى لمادتها أو لأن بعض العلماء نقل عنها كالثعالبى والنويرى فى موسوعته الكبرى التى وضعها فى عهد المماليك (٦٣). وتنقسم الرسالة إلى بضعة أبواب تعالج السلع التجارية المختلفة وأسعارها ومزاياها والزائف منها ؛ وهنا يتناول البحث الكلام على الذهب والفضة والأحجار الكريمة ثم العطور والطيب والأنسجة والثياب. وأكثر الأبواب متعة هو «باب ما يجلب من البلدان من طرائف السلع والأمتعة والجوارى والأحجار وغير ذلك» ، حيث يعدد لنا الجاحظ أسماء السلع المستوردة من مختلف الأقطار ابتداء من الهند والصين ، أحيانا فى شكل تعداد جاف وأحيانا بتفاصيل تختلف طولا وقصرا. ويرد بالطبع ذكر للبلاد الشمالية كخوارزم وبلاد الخزر وبلاد البلغار ؛ أما البابان الأخيران فيغلب عليهما طابع الارتجال ويحس منهما أنهما أضيفا مؤخرا ؛ فالأول منهما أفرد لجوارح الطير مما يستعمل فى الصيد والأخير لما يفضّل من صفات الأشياء سواء بين الحيوان أو الناس ، وهو لا يخلو من الحكمة والموعظة. ويغلب على الرسالة طابع الإفادة العملية ويندر أن تلجأ إلى الاستطرادات الأدبية. وقد تستعصى فى مواضع منها على الفهم نتيجة لمصطلحات غريبة أو غير مدروسة ولكن بعد التغلب على هذا فإن الرسالة تعتبر مصدرا من المصادر الأساسية للتاريخ والجغرافيا الاقتصادية للعالم الإسلامى. وقد كان المؤلفون المتأخرون على إلمام جيد بها ويتضح من المقارنات التى أجراها حسن حسنى عبد الوهاب أن ابن الفقيه مدين أيضا بقدر غير قليل لرسالة الجاحظ هذه.
__________________
(*) طبعت بالتالى على حدة فى القاهرة. (المترجم)