البلاد نفسها. وفى هذه المقتطفات يتحدث الجاحظ عن أهل دمشق (٤٣) وعن عجائب البصرة (٤٤) ومساوئها (٤٥) وعن مساوئ مصر (٤٦). ويوكد هذا ويدعمه الاقتباسات العديدة الموجودة لدى جغرافيى العهد الكلاسيكى ، مثال ذلك ما ينقله المقدسى عن طريق الرواية الشفوية عن الجاحظ فى خصائص المدن العشرة الكبرى وهى بغداد والكوفة والبصرة والفسطاط والرى ونيسابور ومرو وبلخ وسمرقند (٤٧) ؛ ويسوقه هذا بدوره إلى إفراد فصل بأجمعه لخصائص الأقاليم المختلفة. وأحيانا قد يختلط بالمعلومات من هذا النوع ذكر مختلف أصناف العجائب التى تحولت بالتالى إلى نمط قائم بذاته من أنماط الأدب الجغرافى. وفى الفصل الذى أفرده للعجائب ينقل ابن خرداذبه عن الجاحظ خبرا عن الأهواز (٤٨) كما يفعل هذا أيضا ابن الفقيه (٤٩) ؛ أما ابن حوقل فيروى حكاية أسطورية تتعلق بصخرة بهستون يذكر فيها على وجه التحديد أن مصدره «كتاب البلدان» للجاحظ (٥٠).
لا شك أن كتاب الجاحظ عالج الكلام عن بلاد خارج نطاق العالم الإسلامى ولكن لم يحفظ لنا مع الأسف عن هذا سوى إشارة واحدة جديرة بالثقة ، ولكن فى مقابل هذا واسعة الانتشار وهى نظريته فى أن نهرى النيل والسند ينبعان من موضع واحد ؛ وهى نظرية ترتبط على ما يبدو بالنظرية اليهودية المسيحية القائلة بأن منابع الأنهار الكبرى موجودة بالفردوس (٥١). وقد كانت هذه النظرية سببا فى دهشة المسعودى ، الذى مكنته أسفاره العديدة من التعرف على حقيقة الأمر ، بصورة جعلته يقف عندها أكثر من مرة. ففى كتابه المبكر «مروج الذهب» كتب يقول :
«وقد ذكر الجاحظ أن نهر مهران السند من نيل مصر واستدل على ذلك بوجود التماسيح فيه فلست أدرى كيف وقع له هذا الدليل وذكر ذلك فى كتابه المترجم بكتاب الأمصار وعجائب البلدان وهو كتاب فى نهاية الحسن وإن كان الرجل لم يسلك البحار ولا أكثر الأسفار ولا تقرّا الممالك والأمصار ولم يعلم أن مهران السند يخرج من أعين مشهورة من أعالى السند» (٥٢)
وفى موضع آخر من نفس كتابه هذا يكرر المسعودى هذه النظرية بإيجاز وذلك بصدد كلامه عن وجود التماسيح فى مواضع أخرى (٥٣) ؛ ويعود إليها مرة أخرى وبتفصيل أكثر فى آخر كتبه «التنبيه والإشراف» حيث يقول :
«وقد ذكر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فى كتابه فى الأخبار عن الأمصار وعجائب البلدان أن مخرج مهران السند والنيل من موضع واحد واستدل على ذلك باتفاق زيادتهما وكون التمساح فيهما وأن سبيل زراعتهم فى البدين واحد ولا أدرى كيف ذلك وقع له وقد توجد التماسيح فى أكثر أخوار الهند .. وتلحق الناس وسائر الحيوانات منها الأذيّة على حسب ما يلحق أهل مصر وحيواناتهم» (٥٤).
وليس غريبا أن تفسح هذه النظرية المجال لعالم رزين كالبيرونى ليصم الجاحظ بالبساطة والسطحية (٥٥). وعلى العموم فقد قدر الجغرافيون مصنف الجاحظ هذا حق قدره ، وقد رأينا كيف كان موقف المسعودى